الالتزام الضريبي وأهميته في الدولة والمجتمعات

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/05 الساعة 15:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/05 الساعة 15:48 بتوقيت غرينتش

تُعتبر الضريبة من أقدم السُّلوكيات المُنظّمة وتجد موطِئ قدمها مع تقدم البشر وتعايشهم، فمنذ فجر البشرية والإنسان يسعى إلى العيش داخل إطار اجتماعي يضمن له الأمن والاستقرار بوصف هذا الأخير كائنًا اجتماعيًا، فلم يتوفّق الإنسان في مسعاه هذا إلا من خلال وسط تعايش إنساني، وسط كان يتحتم عليه أن يكون منظمًا ليضمن استمراريته، فمن خلال المرور عبر نظرية التطور العائلي، أصبح الشخص ينتقل من وسط اجتماعي محدود إلى وسط أكثر تشعُّبًا وشمولًا، فمن العائلة إلى القبيلة إلى العشيرة ثم القرية نحو المدينة ثم الدولة. في خضمِّ جُلِّ هذه المحطات كان من ضمان أمن هذه المكونات الاجتماعية سبيلاً وحيدًا وهو متمثل في وضع شخص لحراسة هذه المجتمعات المصغرة مقابل تأدية واجب له بشكل تضامني، وكان في الغالب يكون عينيًا من قبيل المأكل أو الملبس أو غيره. وتطورت هذه الواجبات لتصبح فرضًا على الأشخاص تجاه النسق أو المجموعة الاجتماعية، ومن هنا أصبحت تتشكل معالم الدولة من خلال اللجوء إلى انتخاب أشخاص لتدبير شؤون الجماعة على رأسها أموال الضرائب.

مع تقدم البشرية أصبحت الضريبة تخرج من زاوية الأمن إلى السعي نحو التوظيف الجماعي لهذه الضرائب لصالح أهداف مشتركة، إلى أن تطور المفهوم ليصبح كما يُصطلح عليه "المصلحة العامة"، أي تكون معه الضريبة المحرك والسبيل نحو تحقيق المصلحة العامة.

إن مجموع هذه المحطات كانت كفيلة بوضع أساس متين لمكانة الضريبة داخل الأنساق الاجتماعية والسياسية على حد سواء.

كيف لا والضريبة قديمة قِدم الكتابة والنار ومثيلاتها، وتجد موطِئ قدمها في الحضارات القديمة البابلية والفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية وغيرها.

ولا مناص من القول إن الضريبة تُشكل نواة أساسية في التقدم البشري وتُشكل المعالم الحديثة للدولة، وكذلك فإن هذه الأخيرة أسهمت من جهتها في تشكيل وزرع فتيل نزاعات وحروب وثورات اجتماعية وسياسية على رأسها الثورة الفرنسية والصراع بين الملك والسياسيين في إنجلترا وغيرها من الأحداث التاريخية. 

وبشكل أساس فإن الضريبة نجحت في وضع لنفسها مكانة متمايزة داخل النسق السياسي للدولة، وأصبحت الضريبة الأساس الذي تُنبنى عليه العملية السياسية داخل الدولة. ليس هذا فقط بل أصبحت الضريبة المقتضى الدستوري الأبرز والأهم داخل الوثيقة الدستورية على المستوى الكوني، فلا دستور قائم إلا ويتضمن إلزامية الضريبة بشكل من الأشكال، فأصبحت الضريبة هي عربون العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بالأحرى بين المواطن والدولة.

نفس الشيء مع الحكومة والبرلمان، فأصبحت الضريبة بوصفها الحلقة الأبرز في ميزانية الدولة عربون تزكية من السلطة التشريعية لصالح السلطة التنفيذية أي الحكومة، وهنا فالسلطة التشريعية بذلك تُجيز للحكومة على رأس كل سنة صلاحية تحصيل الضرائب ومقدارها من خلال قانون المالية للسنة.

من خلال استجلاء دور الضريبة فلا أحد يمكنه أن يُنكر فضل هذه الأخيرة، فتُعد الضريبة ركيزة أساسية في تقدم أي دولة، فتعمل الضريبة بشكل عام علاوة على تمويل النفقات العامة، فإنها تعمل أيضًا على إعادة توزيع الثروة من خلال التوظيف الأمثل لهذه الأخيرة في مشاريع تنموية اقتصادية واجتماعية تعود بالنفع على المواطن لا سيما الضعيف منه، فالغرض منها تذليل الفوارق الاجتماعية من خلال تضريب الأكثر غِنى لصالح الأضعف وهذه فلسفة التوجهات الحديثة للدولة الاجتماعية، لكن لا يُفهَم من ذلك أن الأقل مقدرة مالية يُعفى من الضريبة، بل على العكس من ذلك فإن الطابع الإلزامي للضريبة على مجموع مواطني الدولة وحتى الأغيار لا يُزايد عليه، فالإلزام الضريبي مقتضى يستمد فلسفته من أسمى وثيقة في البلاد. فالوثيقة الدستورية المغربية على غرار جميع دساتير العالم تنص صراحةً من خلال فصليها 39 و40 على أنه "على الجميع أن يتحمل، كل قدر استطاعته، التكاليف العمومية التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها …." وتفيد صيغة "على الجميع" طابع الإلزامية إلى جانب طابع العمومية والتجريد في وجه أداء الفرض الضريبي في مواجهة الخاضعين للضريبة.

بينما يُراد بعبارة الاستطاعة من خلال نصه صراحةً على أنه "كل قدر استطاعته" تعني تدريج الفرض الضريبي بشكل تنازلي أي كلما قلت المقدرة المالية للمُلزم كانت ضريبته أقل، الشيء الذي يُراد به تقليص العبء الضريبي على المُلزِم، وبالتالي هنا يكون المُشرِّع المغربي لاسيما الدستوري قد أخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والمادية للفئات الضعيفة، إلا أنه رغم ذلك لم يعفها من الفرض الضريبي فهي الأخرى تخضع للإلزام الضريبي تحت أي ظرف كان إلا بخلاف ما ينص عليه القانون. 

فمقتضى الفرض أو الإلزام الضريبي لا يُزايد عليه من قبل المُشرِّع، بل على العكس من ذلك فإنه يرقى إلى اقترانه بالجزاء حيث تنص مواد قانون المالية للسنة لاسيما المادة الأولى على أنه "يتعرض كذلك للعقوبات المقررة في شأن مرتكبي جريمة الغدر جميع الممارسين للسلطة العمومية أو الموظفين العموميين الذين يمنحون بصورة من الصور ولأي سبب من الأسباب، دون إذن وارد في نص تشريعي أو تنظيمي، إعفاءات من الرسوم أو الضرائب العامة".

وبشكل عام، على الرغم من كل ما سبق ذكره، إلا أن هذا الإلزام الضريبي لم يعد موضع احترام من قبل مجموعة من الخاضعين، وبالتالي يتم نهج أساليب تدليسية للتهرب من الضريبة، هذا التهرب يُقوض مساعي الدفع بالتنمية من خلال إضعاف المورد الأساسي للدولة ألا وهو الضريبة، الشيء الذي يخسر ميزانية الدولة حسب تقرير لمنظمة أوكسفام، أزيد من 2.45 مليار دولار سنويًا.

وتُرجع دراسات حول التهرب الضريبي، إلى بروز هذا السلوك لدى الحضارات القديمة، في مقدمتهم الحضارة الفرعونية حيث تؤكد تواجد هذا الفعل استنادًا إلى حفريات أثرية فرعونية.

ويتحكَّم في بروز هذه السلوكيات دوافع نفسية واجتماعية في المقام الأول على رأسها الإحساس بعدم مشروعية الفرض الضريبي، جنبًا إلى جنب مع عدم الرضا العام عن أداء الدولة، على اعتبار أن المواطن يرى عجز الدولة عن التوظيف الأمثل للموارد الضريبية في الدفع بالتنمية أو حتى إقامة مشاريع تنموية فعّالة ومنتجة، وبذلك تصبح الضريبة تمثل فقط ثمنًا يدفعه المواطن لقاء أجور موظفي الدولة الشيء الذي يُعزز دافع التهرب الضريبي، دون أن ننسى ارتفاع معدل العبء الضريبي على عاتق الخاضع الذي يجعله يعزف عن دفع الضريبة لأسباب تتعلق بحجمها أو تعدد تلك الضرائب التي تُشكل تحديًا كبيرًا على المقدرة المالية للأسر أو الشركات الخاضعة للضريبة. ويحتل المغرب مكانة الصدارة إلى جانب الدول العربية من ناحية معدل العبء الضريبي الذي يُقارب 72.2 نقطة أي ما يُعادل 20.8٪ حسب المؤشر العالمي للحرية الاقتصادية لسنة 2019، هذا العبء الضريبي يُقابله ما تطرقنا إليه في النقطة السابقة والمتعلقة بتوسع الضريبة وتضخمها على حساب ضعف تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في الأساس أو حتى على الأقل دفع نحو تخفيض هوة الفوارق الاجتماعية.


الشَّيء الذي يدفعنا إلى التساؤل حول الغاية من الضريبة إذا كانت لن تُحقق ما جاءت من أجله، فإذا كانت معدلات التهرب الضريبي في الدول الأوروبية في أدنى مستوياتها لا سيما الدول الإسكندنافية، فهي ترجع بالأساس إلى ثقة الشعب في الدولة، فالمواطن يلتزم بأداء الضريبة لأنه يدري أن المبلغ الذي يدفعه سوف يستفيد أو يُفيد لا محالة شخصًا آخر من خلال مشاريع تنموية أو فقط للنهوض بالبنية التحتية للبلاد، فالمواطن الأوروبي والإسكندنافي يرى في الضريبة التزامًا أخلاقيًا في المقام الأول قبل أن يكون التزامًا قانونيًا.

نفس الطرح تُزكيه رؤية الهيئات المالية الدولية، فحسب تقرير عن البنك الدولي يحمل عنوان "بناء ثقة دافعي الضرائب مفتاح زيادة الإيرادات الضريبية"، يؤكد فيه على أنه كلما كانت ثقة المواطن في الدولة قوية، زاد استعداد المواطنين لدفع الضرائب ودعم الإصلاح، إلا أن الأعباء الضريبية غير العادلة، والتعاملات التي تُحيط بها الشكوك مع مسؤولي الضرائب، وضعف تحويل الإيرادات إلى خدمات، تنعكس جميعها في تدني الثقة العامة في الأنظمة الضريبية الموجودة في البلدان النامية في مقدمتها الدول الأفريقية.

ويؤكد التقرير أن العديد من مواطني البلدان منخفضة الدخل، لا سيما في أفريقيا، يعتقدون أن الضرائب التي يدفعونها لا توجه إلى تحسين مستوى الخدمات العامة، فعندما يعرف المواطنون أن أموالهم تُنفَق جيدًا على الخدمات التي يريدونها بالفعل، فإنهم يصبحون أكثر استعدادًا لدفع الضرائب. 

ويجمل التقرير أربعة عوامل لتعزيز الثقة بغية التخلص من التهرب الضريبي للخاضعين في أربعة عوامل دافعة وهي (العدالة والإنصاف والمعاملة بالمثل والمساءلة) إضافة إلى زيادة المنافع المتحققة للمواطنين من الضريبة، هذه المحددات تساعد في تعزيز بناء الثقة في النظام الضريبي.  

ويُعد بناء الثقة وتعزيز المساءلة أمرين أساسيين لتوفير بيئة مالية مستقرة ومستدامة ويمكن التنبؤ بها للبلدان، وأيضًا لتعزيز النمو الشامل للجميع.

هذا ما عملت الدول الإسكندنافية على تحقيقه ونجحت في ذلك من خلال تعزيز الثقة في الدولة وأنظمتها الضريبية وأضحت تلك الثقة تنعكس بالإيجاب على دفع الضرائب، حتى وصل إلى حد عدم الرضا أو الإحساس بالظلم من قبل الأفراد على تضريبهم بمعدلات أقل مما يستحقونه، كما هو الحال مع بعض المبادرات التي تُنادي لتضريب أفرادها بمعدلات أعلى.

وتُعتبر مبادرة "Tax me now" أو "ضُرِبْنِي الآن" أشهرها حيث تعمل هذه المبادرة الألمانية تحت إدارة مارلين إنغلهورن الشابة نمساوية الأصل وريثة فريدريك إنغلهورن، مؤسس BASF عملاق الصناعة البتروكيماوية والدوائية، التي دخلت بعد وفاة جدها في خانة المليارديرات من خلال ميراثها الذي يتجاوز عتبة 4.2 مليارات دولار، الشيء الذي ترفضه خصوصًا أن الدولة النمساوية كانت قد ألغت قانونًا يفرض ضرائب على الميراث، الشيء الذي دفع بمارلين إنغلهورن إلى تأسيس المنظمة سابقة الذكر والعمل على جمع توقيعات لا سيما من لدن المليارديرات في أوروبا لفرض ضرائب أكثر عليهم، وعبرت مرارًا عن رغبتها في إعادة توزيع 90٪ من ثروتها وقد وزعت 25 مليون يورو على مواطنين من بلدها النمسا. فقد أعلنت عن تحويل ذلك المبلغ لموطنها في النمسا من خلال الخزينة العامة للدولة.

بل إن مبادرة "Patriotic Millionaires" أو "المليونيرات الوطنيين" ليست أقل أهمية، وهي مبادرة أمريكية تضم أزيد من 200 مليونير تنشط هي الأخرى في سبيل إحقاق عدالة جبائية قائمة على تضريب الطبقات الغنية بمعدلات أعلى، وتعتبر هذه المبادرة ذات أهمية داخل المنظومة السياسية الضريبية الأمريكية حيث ما فتئت تُعارض التخفيضات الضريبية غير العادلة. هذا المسار الحافل لهذه المبادرة يُضاف إليه الفضل في إقرار أهم القواعد المالية وأعقدها مرورًا من قبل الكونغرس، ألا وهي قاعدة "بافيت" المتعلقة بتحديد سقف الحد الأدنى للضريبة. هذه القاعدة التي تم إقرارها سنة 2011 مكنت من تحصيل إيرادات ضريبية إضافية بقيمة 36.7 مليار دولار بشكل سنوي في أفق تحقيق 367 مليار دولار على المدى البعيد. فكان لهذه المبادرة دور أساسٍ في حشد الرأي العام بعد أن أوكل لها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الأمر.

تُضاف إلى هذه المبادرات مبادرات أخرى، أهمها وأحدثها دعوة أطلقت بمناسبة انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي "منتدى دافوس" لسنة 2024 الذي وقع عليه 260 مليارديرًا تحت عنوان "فخورون بأداء ضرائب أكثر"، كانت من بين الموقعين مارلين إنغلهورن جنبًا إلى جنب مع مجموعة من المليارديرات المعروفين.

إن جلّ هذه المحددات تدفع نحو نهج قيم جديدة قائمة على المواطنة الضريبية والتقدم بشكل طوعي نحو أداء الضريبة، وتجنب أية أساليب تدليسية للتهرب من الضرائب المفروضة لما تمثله هذه الأخيرة من أهمية بالغة على حياة الأفراد لا سيما الطبقات الفقيرة من خلال إحقاق عدالة اجتماعية لهذه الفئات عبر نهج مسار الدولة الاجتماعية هذا، الذي يستمد فلسفته من فرض ضرائب أكبر على الفئات الأغنى لتحقيق الدعم المباشر للفئات الاجتماعية الأفقر بغية تحقيق توازن اجتماعي يضمن الاستقرار والرضا للجميع.

وختامًا، يمكن القول إن المواطنة الضريبية مفهوم يجب تبنيه والعمل من خلاله، والانخراط في دفع الضرائب لإحقاق التنمية، والعمل بشكل مشترك من أجل القضاء على هذه السلوكيات القائمة على التهرب الضريبي، لكن يستوجب هذا من جانب الدولة تحقيق أقصى منفعة من الضرائب المُحصّلة من خلال التوظيف الأمثل للموارد الضريبية تلك في سياسات عمومية أكثر إلحاحًا وأهمية، وليس بتوظيفها في توجهات بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة التي تقتضيها الظرفية. ولتصبح بذلك الضريبة هي صك التزام متبادل بين الخاضع والدولة، تخدم فيه الضريبة دعم الإصلاح والتنمية في الوطن وإحقاق العدالة الاجتماعية المنشودة من خلال تذليل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمجالية، نحو أفق أكثر ازدهارًا وتقدمًا بما فيه مصلحة وخدمة للوطن والمواطن.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]


مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
بدر زيتوني
باحث في العلوم القانونية
تحميل المزيد