كل الأمور التي نبتهج بها أو نبتئس من أجلها، متصلة ببعضها اتصالاً وثيقًا جداً. كانت مجانية التعليم الجامعي مَكسباً، وما زالت ضرورة لتنمية البشرية والاقتصاد، لكن عدم كفاية التمويل أدى إلى أنْ تدنَّى مستوى هيئات التدريس مادياً وعلمياً. فعلى سبيل المثال كانت الكهرباء في الريف والحضر ضرورية للتنمية البشرية والاقتصادية، لكن ظلت سياسات التسعير وتخطيط الإنتاج والتمويل بائسة وفاشلة.
فعندما أهملت الصيانة في محطات توليد الكهرباء لضغط الإنفاق، توازى ذلك مع عجز مالي في دفع مستحقات الشريك الأجنبي قبل يناير/ كانون الثاني، فتراكمت الديون، وتأخر التنقيب والاكتشاف عن المستخرجات من ثم توقفت تنمية الحقول وتعطلت كليًا.
وعندما تفاقمت الأمور والأوضاع السياسية والاقتصادية ووصلت كلها إلى القاع في عام 2012، استغلت الدولة العميقة الأزمات لإسقاط نظام الإخوان المنتخب، لإظهار عجز النخبة المدنية، بل وركبت الدولة العميقة على ظهر جبهة الإنقاذ للاستيلاء على السلطة.
عندما ضاعفت مصر طاقة إنتاج الكهرباء في عام 2014، كانت سارت الأمور أيضاً بالتوازي المحتفل به والمبتئس له معاً، فقد تم إدارة الأمر بشكل غير مرشد في ظل تنظيم طاقة فاشل وعاجز. استمر استهلاك الوقود والمازوت والغاز دون دفع أثمانهم، ثم تم اللعب في توزيع الكهرباء المولدة، مما أدى إلى تراكم ديون شركات النفط والغاز الأجنبية. فظهرت الديون على هيئة البترول، و عجز مالي لهيئة كهرباء مصر، بينما وفرة مالية لشركات توزيع الكهرباء.
لكن المدهش المبكي، أن تراكم الديون بالعملات الأجنبية والجنيه المصري أيضًا، أدى إلى أزمات متكررة في سعر الصرف، فبعد أن خُطط لإلغاء الدعم عن الطاقة عام 2016 خلال خمس سنوات، عاد دعم الطاقة مجددًا بعد أن أدت تعويمات العملة المحلية في عام 2023 وعام 2024 إلى انخفاض قيمة الجنيه إلى ما كان عليه كنسبة من الناتج المحلي لعام 2016، وهذا هو التعريف الدقيق للحرث في البحر.
ومن المضحكات المبكيات، أن الدولة العميقة المعادية بشراسة للديمقراطية واللامركزية في الحكم، والتي لا تستسيغ مشاركة السلطة مع البرلمان، ولا تقبل النقد، وتراقب وتمنع الصحافة والإعلام الحر، تدعي أنها حكومة "تكنوقراط" أي حكومة الخبراء!
بينما ما تقوم به بطريقة صحيحة، هو إعادة فشل نظام مبارك والسادات وعبد الناصر، كأي سلطة شمولية قائمة على تسويق الفشل والخبز، بينما تدمر التعليم والصحة وفوق كل ذلك "انقطاع الكهرباء" تفشل في إدارة الطاقة، واليوم لن ينفعها هذا الفشل، مهما استعدت وتحصنت بالبروباغندا أو بأطراف ثالثة، إذ دخلت سباقًا سريعًا في الانحدار "فورمولا"، وربما ما تدركه أن القوة الانفجارية لغضبة غلاء الخبز لن تجعل الأمور تستقيم.
ما أود التحذير منه لكل الأطراف، أن مستويات الدين العام سواء بالجنيه أو العملات الأجنبية، ومستوى أداء الإدارة للحكومة، والاستحقاقات القانونية والدستورية، والعلاقات الخارجية المبنية على اعتماد سياسي واقتصادي على العالم الخارجي لا تسمح بانفراد السلطة القائمة أو صراع أجنحة ولا حتى بكل تأكيد تخبط سلطة ثورية تحلم فقط بإزاحة السلطة القائمة، خصوصًا ما نعرفه عن الأخيرة من الإصرار على الاستحواذ والانفراد حتى آخر نفس.
ما أود أن أوضحه في نهرنا لكل التماسيح، أنه لم يعد بالنهر فرائس لكل فم، وإن كان ما زال في تماسيح نهرنا عقول، وأنا أشك في ذلك، يجب أن تصنع مبادرة حثيثة لإنقاذ وادينا الفاشل والمنهار اقتصاديًا، فأياً كان تقديرنا لما نحن عليه في مصر، فالتصادم والانفجار لن ينتج وضعًا أفضل ولو حتى قليلًا، فقد آن الأوان للتغيير لتفادي خسران الكثير من الذي صنعته أجيال عديدة من المصريين في بناء الدولة، يجب أن ننظر لغد أفضل، لربما يتحمل الشعب المصري ثمن الإصلاح إذا ما اعتذرت السلطة وبادرت في التغيير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.