يمكننا أن نسلم مع هيجل أن الفلسفة هي بنت زمانها كما أن الإنسان هو ربيب زمانه، ومن الحماقة أن نعتبر الفلسفة قادرة على الانسلال خارج ظرفها، فلا يصح بهذا المعنى أن نرجح كون أي فيلسوف يفكر خارج بوتقة واقعه ومعيشه، فإذا وضعنا أي كتاب يخصه تحت مجهر الدراسة والقراءة النقدية والتحليلية، فإنه من اللازم استدعاء شخصية الفيلسوف والسياق الذي اشتد فيه عوده، وألا ننساق وراء فكرة موت الكاتب التي أعلنها رولان بارت، لأن ذلك سيفقدنا جزءاً كبيراً من الدراسة، فينتج عن ذلك قراءة مشلولة ترى النص كائنًا يحمل روحًا ولكنه يفتقر لجسد، وصحيح أن الروح تعبر عما يخالجها، إلا أنها بحاجة دوماً إلى جسد الواقع والسياق، فهو الوحيد الكفيل بأن يستنطقها.
هذه الرؤية التاريخية تنطبق على الفيلسوف اليوناني الفذ أفلاطون الذي أينعت فلسفته في سياق معين يعج بأحداث ووقائع ما فتئت تحضر ولو بشكل ضمني في جميع أعمال هذا الفيلسوف، وبالخصوص كتاب "الجمهورية"، الكتاب المتخم بقواعد وضوابط متينة وصلدة شيدت عليها أعمدة المدينة المثالية المتصلة بعالم الأفكار والمعقولات والخالية من كل ما يغل الفكر من عادات وتقاليد وأوهام ونسخ مشوهة، ففي جوف فترة سادت فيها الفوضى وتفشت فيها مظاهر التشتت والتعدد، اقتضت الضرورة جدلاً صاعداً يتسامى بنا إلى أجواز السماء لاستنباط النموذج الأمثل الذي يتسم بالوحدة، لذلك لا يساورنا أدنى التباس أو ارتياب بخصوص صرامة جمهورية أفلاطون المبالغة، لأنه وفي غمار هذه الصرامة يقبع التوازن والنظام والاتساق ويذوب الاختلال والتنافر.
وعلى وقع الأثر الذي خلفه أفلاطون في أوساط الفلاسفة الذين أتوا بعده، نال احترام وتبجيل عظيمين، ليس لكونه جاء بجديد لم يكن من قبل، ولا لأنه ساهم في إثراء الرصيد الفلسفي اليوناني وعبد الطريق لفلسفات عديدة من بعده، بل لأنه سبق زمانه، وفلسفته عاندت واقعها وانسلخت منه هاربة إلى عالم آخر يزدان بالمثال والأصل. إنه بهذا المعنى أعلن الثورة على التاريخ واستمسك ضد مساره وعرج به إلى مسار آخر ينحو نحو تصويب الإنسانية إلى التعلق بالمثل ونبذ الواقع باعتباره يتخبط في الأوهام المضللة والنسخ الباهتة.
لكن هل يجب أن ننظر إلى فيلسوف بمجرد أنه أبدع و اكتشف نظرة تقديسية؟ ألا يمكن القول إن هذه النظرة تنبع من التغاضي عن تربة الأرض التي أنبتت هذا الفيلسوف؟ و كيف يتيسر لنا انتزاع هالة القداسة عن أفلاطون دون أن يكون لذلك عاقبة قدح فلسفته بحيث نستطيع معها إخضاع كتابه "الجمهورية" للتحليل و الدراسة؟ هذه الأسئلة تفتح لنا آفاقا جديدة متعلقة بالرهانات و الأبعاد التي امتدت بأفلاطون و جمهوريته إلى البؤرة المشتعلة للفلسفة المعاصرة المعروفة بصقل كل التراث الفلسفي القديم. إنها الفلسفة المتمردة على كل النظريات الفلسفية التي تنأى عن الواقع و تغدو سابحة هائمة في الخيال، وهذا ينطبق على أفلاطون أيضًا، فهو مركز الاهتمام عند بعض الفلاسفة المعاصرين، سواء السياسيين منهم أو التربويين أو حتى فلاسفة التحليل و الوضعية، وقد وجهت النقد على أفلاطون إلى ذلك التصور الذي يضعه في مرتبة الريادة. هذا التصور تطور إلى شخصنة الفلسفة، و ما يعزز ذلك قول "ويل ديورانت" في كتابه "قصة الفلسفة" على لسان "إمرسون": "الفلسفة هي أفلاطون وأفلاطون هو الفلسفة".
أو كما يقول وايتهيد: "تاريخ الفلسفة هو تاريخ حواشي عن أفلاطون". وهذا يعكس مدى الأثر الذي غرسه هذا الفيلسوف في تاريخ الفلسفة ككل، وسنحاول في هذا المقال القيام بقراءة تاريخية تنتفي معها عبارات الإعجاب والتقريظ، و تؤثر الوقائع مع الشخصيات بغية استنباط المواقف الأخلاقية و السياسية من جمهورية أفلاطون.
أعطى المؤرخ ويل ديورانت أهمية كبيرة لكتاب أفلاطون "الجمهورية" بحيث اعتبره أثمن الكتب و أكثرها تأثيرا، بحكم أنه يمثل فلسفة أفلاطون بأكملها، فهو الكتاب الذي انبرى لقضايا عسيرة جدا ذات الصلة بالأخلاق و الفن و السياسة و التربية و التعليم، فليست دعواه تصميم دولة مثالية فقط ، وإنما كذلك إبطال الآراء و العقائد السائدة الملتصقة بهذه القضايا التي يروج لها السفسطائيون و يتاجرون بها بذريعة أنها حقائق، لذلك نجد أن معظم محاورات سقراط في الجمهورية اكتست هذا الطابع السجالي الخفي بين الفيلسوف كباحث عن المعرفة و السفسطائي كمُدّعي لها.
لم يتصادم ويل ديورانت مع مشروع أفلاطون المثالي، بل بالعكس تمامًا، صرّح بأن الجمهورية رأت النور في مجموعة من المدائن، ولو بطريقة شكلية فقط، حيث في القرون الوسطى كانت تقوم المدن المسيحية على تقسيم طبقي صارم ومغلق، من الطبقة الأدنى للعمال، مرورًا بطبقة الجنود، وصولًا إلى طبقة رجال الدين. هذا التقسيم كان بديهيًّا جدًا، ويتطابق مع التقسيم الذي وضعه أفلاطون في كتابه، والفرق بين الاثنين يكمن في تبويء الرئاسة، ففي القرون الوسطى بسط الدين سيطرته على كل مناحي الحياة الاجتماعية والذاتية، لذلك خول الحكم للقساوسة من مرجعية دينية، على عكس الجمهورية، فالحكم لهذه الأخيرة يتمتع به الفلاسفة فقط، لأنه في السياق التاريخي لأفلاطون تآكلت المعتقدات الدينية بشكل كبير، وغلب الحس الفلسفي التأملي والنزوع نحو الحكمة والترفيه المعرفي والفكري على الأساطير والخرافات. لكن هل يحق لنا إذن أن نقول مرة أخرى إن الجمهورية لا تستمد مثاليتها من عالم المعقول بل من عالم الحس؟
كما ذكر ويل ديورانت المزالق التي تعثرت فيها نظام الجمهورية، ومن أفدحها أن أفلاطون قد قتل الأسرة بسلاح الشيوعية، ويظهر ذلك في محافل كثيرة في المتن الأفلاطوني حين يحضر الجانب الافتراضي، فهو لم يولي أهمية لمشاعر الأمومة وأقر بسهولة تامة بأن الأم ستسلم ابنها إلى الدولة، أو أنها ليست بحاجة للزوج. والواقع يؤكد بأن الأسرة هي عصب التربية في المجتمع ومنبع الإبداع، فهي حسب الدراسات السوسيولوجية المعاصرة من الركائز التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، فلكي يحافظ المجتمع على انسجامه وتماسكه يستند إلى نظام الأسرة.
لقد خلق الاضطراب الذي ضرب أثينا نتيجة هزائمها المتتالية في الحروب وكذلك المشاكل التي عصفت بالنظام داخلها، نوعًا من الرعب في نفس أفلاطون، لذلك اقترح نظام الجمهورية كنظام ثابت لا يعتريه التغير ولا تمسه الصيرورة، انطلاقًا من تصميم هرم للطبقات الاجتماعية التي استقاها من النظام داخل الطبيعة. في خضم هذه الطبقات، يغيب الفرد وتطمس قيمته، إن أفلاطون يكون بذلك يصنف الناس ليس بوصفهم أفرادًا مستقلين بل وكأنهم كائنات نملية تكاثرية. هذا قد يؤدي بالجمهورية للانزلاق إلى مجتمع قديم يسوده الركود والجمود ويعادي كل ميل للتغيير والاختراع. من مبدأ أن المعرفة ليست سوى اكتشافًا عند أفلاطون وليست اختراعًا، ولأن الفن يقوم على الاختراع والإبداع، فإن الجمهورية قللت من قيمته وازدرته، واحتفت فقط بالموسيقى كنمط فني يشعل جذوة الشجاعة من جهة أو يمنح إحساس الرفاهية من جهة ثانية. فيكون أفلاطون بذلك قد أعلن موت الفن قبل أوانه، أي قبل إعلانه في الفلسفة المعاصرة من لدن نيتشه.
يظهر جليًّا كرهان آخر للجمهورية في العصر الحالي أنها سعت إلى تغليف السياسة بالأخلاق والتربية، فإذا اعتدلت السياسة فالتربية الخلقية هي قشرتها الصلبة التي لا تنكسر. نلاحظ ذلك في عديد من أطوار كتاب أفلاطون، حين يعتبر التربية أساس كل حكم حكيم، وأولى العناية التامة للحكماء والفلاسفة ذوي العقول النيرة والحكيمة والجواهر الذهبية المشعة والفضائل السامية. فما أحوجنا اليوم لمثل هؤلاء الحكام كما تصورهم أفلاطون، لأنهم القادرون فقط على السمو بحياة الشعوب التي يحكمونها عن طريق تكييف أفكارهم مع الوقت الذي نعيش فيه، بما في ذلك من تعديل لمعادلة الجمهورية التي تعول على الفيلسوف للاتصال بالمثل وفك ارتباطه بالواقع. صحيح أننا بحاجة لحكام حكماء، لكن يجب عليهم ألا يفروا إلى عوالم متعالية تطير بعيدًا عن اليومي والراهن. هذا التعديل يقارب تمامًا ما فعله ماركس مع هيجل في "بؤس الفلسفة".
وبما أن أفلاطون قد عارض الديمقراطية باعتبارها تخلق الفوضى، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على أن نبعث الديمقراطية من جديد في المتن الأفلاطوني في سياقنا المعاصر. صحيح أننا لا نستطيع تقييد وتحديد حق التصويت كما اقترح أفلاطون، لكن نستطيع وضع قيود على تقلد المناصب بحيث يتم التنصيب على أساس الكفاءة والاستحقاق دون أن نقع في فخ الديمقراطية بتعيين رجال جهلة وضعفاء من جميع الجوانب يفتقرون للشروط الضرورية للحكم من فضائل وأخلاق ومعارف لمجرد أن الشعب اتفق على تعيينهم. ومع الاعتماد على أساس التربية كركيزة للحكم، يجب تدريب وتهذيب الحكام وفق الشروط السياسية التي يقتضيها الحكم. كما أن للأطباء كليات يقضون فيها 7 سنوات لتعلم جميع أساسيات الطب، فإن رجال السياسة أيضًا يحتاجون إلى كلية تهتم بالعلوم السياسية فقط. وبالتالي، يجب أن يشترط على كل من يرغب في الانضمام إلى مجال الحكم أن يتوفر على شهادة استحقاق تدل على أنه درس في كلية السياسة وتلقى التكوين الكافي واللازم الذي يكفل له إمكانية الحكم أو تولي منصب معين في الدولة. سيكون هذا النظام الذي أشار إليه ديورانت مزيجًا ما بين الديمقراطية والأرستقراطية.
إن حضور أفلاطون في قلب عالمنا المعاصر أضحى ضرورة ملحة من جانبين: الجانب الأول يتجلى في أن كتابه الجمهورية قد فتح بابًا جديدًا أمام التحليل الوصفي الطبقي الصارم، وهو التحليل الذي دفع ب"بوبر" إلى اعتبار أفلاطون عالم اجتماع. ولا ينبغي استسهال مقولة "العالم" من منطلق إبستمولوجي، فلكي يُعد أفلاطون عالمًا، فإن الشرط لذلك هو أن يقطع الصلة بعالم المثل، وأن ينغمس في واقعه. لكن بالفعل فعل ذلك، أو بإمكاننا أن نقول إن تأويلنا له يقودنا إلى هذه الفكرة، ولولا أن هذا صحيحًا، ما كنا لنجد أفلاطون في الكتابات الماركسية الكلاسيكية والمعاصرة التي تأخذ بمبدأ التاريخانية لاستنباط الشيوعية منها. فالأخيرة هي وحدها الدعامة لتأسيس مجتمع يقوم على عدالة ومساواة، ولكن هذا لا ينطبق على كل الطبقات. فالماركسية قد تعاطفت مع الطبقة المطحونة التي سمتها بالبروليتاريا واحتقرت الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، لأن الماركسية كانت تعي وعي الطبقات كما سماه "لوكاش"؛ هذا الوعي هو الذي يحرك التاريخ. فإذا أدركت البروليتاريا حالة الاستعباد اللطيف بتعبير "لينين" الذي تتعرض له، فإنها حتماً ستستميت وتناضل مصدره، وبهذا تتحرك عجلة التاريخ كنتيجة لهذا الصراع الطبقي. وفقًا لهذه الرؤية الماركسية، يمكن أن نقول إن النظام الطبقي في جمهورية أفلاطون مهدد دائمًا بالاضطراب، ما دام الوعي لدى الطبقة العاملة ممكنا ومدام إهمالهم سارياً، وحتى لو بلغ هذا النظام الطبقي أوج انغلاقه كما عند بوبر، فإنه لن يقدر على مجابهة هول ومكر التاريخ. إن التاريخ كما يظهر هو سلسلة من التغيرات والتقلبات في جميع المجالات والجوانب، العلمية والثقافية والاجتماعية، قائم على أساس ثلاث مراحل حددها أرنولد توينبي للحضارة: مرحلة النشوء، ثم مرحلة الازدهار، ثم مرحلة الاندحار. إن كل حضارة وكل مدينة دولة مهما بلغت من الازدهار تبقى مشروطة بقانون حياة الحضارة وأن نهايتها الاندثار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.