في بعض الأحيان، يتراءى لنا التاريخ كأنه شاعر ماهر، يُنقِّح قصائده بعناية ويعكف على تزيين استعاراته وصقل بلاغة كلماته. ولعلَّ مذبحة "الركبة الجريحة" تُجسِّد هذا الشعور بأبلغ صورة. فبعد قرونٍ من المذابح والقتل الوحشي بكل الطرق والوسائل الممكنة، جاءت النهاية الحزينة لنضال السكان الأصليين لأمريكا "الهنود الحمر" في عام 1890 عند غدير الركبة الجريحة. فهناك، تم قتل "الثور الرابض – سيتينغ بول"، آخر الزعماء المهمين، ومن بعدها خضعت القبائل للقوانين القاسية التي فرضتها حكومة الولايات المتحدة بهدف تدجينهم في محميات خاصة، ليمحى أثرهم تدريجيًا ويصبحوا أقلية صامتة بلا صوت ولا قيمة، بعد أن كانت الأرض لهم، والماء لهم، والسماء كلها.
لم يقتصر الأمر على موتهم الجسدي، بل تجاوز ذلك إلى تشويه سيرتهم ووصمهم بالوحشية، في حين أن الجرائم الفعلية هي تلك التي ارتُكِبت بحقهم. هكذا شُوِّه وجودهم، وحُرِّف تاريخهم، وسُلب مستقبلهم، باسم الحضارة. جسدت مذبحة الركبة الجريحة النهاية المأساوية، وكأن التاريخ قد كتبها بصيغة سينمائية كمشهد نهاية لرواية حزينة، مكثفًا قصة طويلة ومؤلمة في لقطات درامية معدودة، تُلخِّص حكايات كثيرة عن حضارتنا اليوم وما يخصها من سفك الكثير من الدماء.
اليوم، لا يستطيع أحد في العالم الهروب من أصوات الحرب على غزة، فهي ببساطة رفعت تناقضات العالم إلى الواجهة، وأظهرت كيف أن تحت مسرح الحضارة اليوم، الكثير من الجثث والدماء. فعندما صرّح رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوج قائلًا: "هذه الحرب ليست حربًا بين إسرائيل وحماس فقط.. إنها حرب تهدف حقًا إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها"، لم يكن بإمكانه أن يكون أكثر وضوحًا، فلطالما شُنت الحروب الغربية لفرض "القيم" الغربية وتطبيقها وحمايتها. ضمنيًا لم يكذب، فهو يتحدث عن الشكل والقيم الحضارية التي تسوقها دول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وكندا، وأستراليا، ودول غربية أخرى كديمقراطيات جمهورية ليبرالية، تأسست على الإبادات الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري وسرقة الأراضي والعنصرية البنيوية.
ما يقصده هرتسوج هو الدفاع عن استمرار هذا النمط من التفاعل الحضاري الغربي، الذي يتعامل مع الاستعمار كحدث عرضي في الماضي انتهى، مانحًا شرعية للمستوطنين والمستعمرين الذين نهبوا الأراضي بالقوة منذ زمن وربطوا أنفسهم بها من خلال الإقامة وبناء الشركات والمجتمعات، في محاولة لإضفاء شرعية على وجودهم وكأنه طبيعي لا جدال فيه. وأي محاولة من أصحاب الأرض المقهورين لاستعادة بيت أو أرض مفقودة تُعد رجعية وإرهابية تسعى لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
لطالما تمكنت الولايات المتحدة وكندا وأستراليا من الادعاء بأنها تدافع عن الحرية وحقوق الإنسان، في حين أن مدنها بُنيت على جثث الشعوب وقراهم التي أبادوها. رغم ذلك، تمتلك الولايات المتحدة وحلفاؤها حق الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتؤثر قراراتها بشأن الكوارث المناخية والتسلّط العسكري على العالم بأسره، وتشن حروبًا مدمرة دون أي محاسبة، ولكن حبّها المُعلَن للحرية، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، كما تدعي، لا حدود له.
تأتي فلسطين اليوم، لتعلِّمنا معنى الوجود في العالم بدلاً من مجرد مشاهدته، موضحة لنا بكل شجاعة كيف باستطاعة البشر رفض فوضوية العالم وعدم مثاليته. بعبارة أخرى، تقول لنا: يُمكن للبشر السعي لتطبيق المبادئ السامية، مثل حب الحياة والسعي في طلب الكرامة والمساواة، حتى في ظل التناقضات والتعقيدات. بمقاومتها منذ أكثر من 75 عامًا إلى اليوم، وبحدة لم تتناقص بل تشتد، تؤكد لنا أن "المقاومة" فعل فطري ودائم، وطبيعي للإنسان في هذه الحياة. فإذا ما نظرنا لطبيعة البشرية والحضارة الإنسانية بكامل إنتاجاتها المادية والفكرية، سنجد أن الدافع وراءها هو رفض الخضوع للواقع، للطبيعة. أما بالنسبة لادعاء المنطق الشديد من أجل الفعل في الأشياء فهو ضد المنطق، إذ ينكر حقيقة أن نعيش في حياة قائمة بالأساس على التناقضات، ولا أعتقد أن الخضوع يغير القدر.
تقول أنجيلا ديفيس، أيقونة النضال الأمريكية، "كلنا فلسطينيون في مواجهة ذات العدو على جبهات عدّة"، بمعنى أنه يجب أن ندرك أن تضامننا مع فلسطين ليس مجرد واجب، بل هو معيار لمدى قدرتنا على إحداث تغيير حقيقي في العالم. فالنضال الفلسطيني، المستمر منذ أكثر من نصف قرن، ما زال ينخر في صميم الحداثة الغربية التي بُنيت على التمييز العنصري والاستعمار، ولذلك يواجه أهل غزة البطش الإمبراطوري من الولايات المتحدة، لأنهم ما زالوا ينبهوننا بضرورة القضاء على الاستعمار كنظام أيديولوجي واقتصادي وثقافي، لنهب الموارد، وسلب الممتلكات، والاستغلال. فالوقوف مع أهل غزة وفلسطين، بأي طريقة، هو ما قد يسوقنا إلى يوم نصبح فيه جميعًا أحرارًا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.