كيف يمكن أن تدمر أساليبنا التعليمية عقولنا؟ 

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/02 الساعة 11:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/02 الساعة 11:38 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

يمكن تعريف مصطلح "البيداغوجيا" على أنه العِلم المعني بأصول وأساليب التدريس، ومن منظور أكاديمي أو لغوي يمكن القول إنّ البيداغوجيا هي طريقة التدريس المتبعة وممارستها من قبل المعلمين أصحاب الاختصاص. من هذا الفهم، يأتي مفهوم البيداغوجيا التلقينية كتربية وتلقين المتعلمين مجموعة من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات في سياق ضبطهم إياها، حيث تجعل من ضبط محتوى ومضامين المعرفة الغاية الأسمى من كل تعليم، حيث يركز الأستاذ المدرس على الجانب/البعد المعرفي في المتعلم ويقصي الجوانب الأخرى. ومن هنا تنطلق البيداغوجيا التلقينية أو كما عرفت في الأدبيات التربوية ببيداغوجيا المضامين أو المحتوى، وهي بالمناسبة بيداغوجيا تقليدية تلقينية، لأنها تنطلق من مسلمة/فرضية أساسية وهي أن عقل التلميذ صفحة بيضاء ومن ثم وجب ملؤه وشحذه بكمية من المعارف والعلوم الجاهزة، بدون مراعاة لتمثلاته الشخصية التي يكتسبها من المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، ومن ثم فهي تؤكد على قيمة وأهمية التلقين على حساب الإبداع، وذلك من خلال محاكاة المتعلم لسلطة النموذج السلوكي والتشبع بالعديد من القيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة، ربما دون فحصها وتمحيصها لهذا يتم نعتها بالمقاربة التلقينية. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه توجد العديد من الممارسات المهنية لبعض المدرسين -في جميع المواد التعليمية- في عالمنا العربي لازالت تركز على الجانب المعرفي والفكري للمتعلم، ويتم التركيز بالخصوص على المضامين والمحتويات المعرفية، وكأن رهان تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي هو شحذ ذهن المتعلم بمنظومة من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات الفلسفية -التي أصبحت متجاوزة وتعرضت للكثير من النقد- فيركز الأستاذ على سيرورتي إفهام تصور الفيلسوف وتذكير المتعلمين بحفظه وضبطه جيداً، من أجل استرجاعه أثناء المراقبة المستمرة أو الامتحان النهائي، وهكذا يتم ضمان العلامات النهائية في مادة الفلسفة وغيرها من المواد.

ما نلاحظه هنا هو أن المقاربة التلقينية ما يميزها هو أنها مقاربة تقليدية تركز على أسلوبي التلقين و الاجترار والتكرار والاسترجاع، كما تركز على ملكة الذاكرة، بدل ملكة الفهم والإدراك والعقل، كما أن ما يميزها هو رفضها لكل إبداع وخلق وابتكار وتجديد وبحث.

فماذا سننتظر من مادة الفلسفة في ضوء هذه البيداغوجيا التلقينية؟ سوى أن تتحول هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية والتساؤلية إلى منظومة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي يكررها بعض المتعلمين كالببغاوات، فتجدهم يكررون قول أو مبدأ كوجيتو (المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان) لرونيه ديكارت الشهير:  "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، دون إدراك عمقها الفكري والفلسفي، بل وكيف أسست للفلسفة الحديثة، وركن الحداثة، وأن هذه المقولة ما هي سوى صدى ورد فعل لثورة "كوبرنيكوس" الشهيرة سنة 1543.

ما يهمنا هنا في حقيقة الأمر هو سعي الأستاذ الحثيث إلى تلقين المتعلمين المنظومة المعرفية المثقلة التي تنتمي لتاريخ الفلسفة الضخم، وهي "معارف ترانسندنتالية" بمعناها المتعالي والعاجي، لم يساهم المتعلم في تكوينها وتكونها نتيجة هذه البيداغوجيا التي تعتمد التلقين.

هكذا يعتمد تعريف التلقين على تلك العقيدة المرتبطة به، أو المذهب الذي يتمّ تعليمه. لهذا تهدف البيداغوجيا الحقيقية إلى تكوين أفراد مسؤولين وواعين يفكرون بأنفسهم لأنفسهم مهما حدث ويحترمون الآخرين. بالنسبة إلى أوليفيي روبول فيلسوف التربية الفرنسي، " فإن أي تعليم ينحرف عن هذه الأهداف هو "تعليم مضاد". ويضيف أن المدرس يواجه دائمًا خطر التأثير على طلابه إما لأنه ينخرط في الدعاية أو، على العكس من ذلك، لأنه يُشْعِرُهُمْ بالملل من تعليمهم. ".

ولعل ذلك ما يخلق للعديد من المتعلمين الذين لديهم هذا الأسلوب التلقيني العقيم في التدريس، الملل والرتابة والضَّجَرِ، لهذا تجدهم يعبرون عن تذمرهم وسوء فهمهم للمعارف الفلسفية، بل وكيفية تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع. 

لماذا يعد التلقين خطيرًا في عملية التعليم؟ 

يُمثّل التلقين انحرافًا خطيرًا عن مبادئ البيداغوجيا السليمة، حيث يتلاعب بالمعتقدات الراسخة لدى الأفراد ويستغلّها لتحقيق غاياته. ويتبدى ذلك جليًا في نوعين مُنْحَلَّيْنِ من التلقين:  أولاً، التلقين الطائفي: يتّسم هذا النوع باستبدال تحيزات الفرد بأخرى جديدة، غالبًا ما تكون مُستوحاة من أيديولوجية القائد أو جماعة معينة. ويُستخدم العنف السيكولوجي بكثرة لتحقيق هذه الغاية، ممّا يُخضع الفرد ويُفقده القدرة على التفكير النقدي الذاتي.

ثانيًا، التلقين المُتفق مع الأيديولوجية السائدة: يُركّز هذا النوع على تعزيز التَّحَيُّزاتِ الموجودة لدى الفرد بشكلٍ تدريجيّ وغير مُباشر، ممّا يجعله [أي المتعلم] أكثر عرضة للتأثر بالأفكار الأيديولوجية المغلوطة دون أن يُدرك ذلك.

تسيء البيداغوجيا التلقينية من التلقين إلى تدريس مادة الفلسفة، حيث قد يجعل منها مادة حمالة لنزعة أيديولوجية معينة، بينما وما هو معلوم عن (بدلاً من "على") هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية، أنها مادة حيادية بامتياز، ولا يمكن التركيز على فلسفة معينة وإهمال الأخرى، بل قد يؤدي سوء الفهم هذا إلى تقديم تصور مغلوط للفكرة الفلسفية دون أن يدرك المتعلم ذلك.

كما يؤدي هذا النمط التلقيني إلى تعريض الكثير من المعارف والأفكار والتصورات والآراء الفلسفية للإهمال والنسيان من طرف المتعلمين، وذلك نظراً لعدم وضوح معناها والفائدة المتوخاة منها.

غالباً ما يُثير مصطلح "التلقين" تفكيراً غامضاً، حيث غالباً ما يقترن بالدعاية والتكييف السيكولوجي. لكن يجب أن نُدرك أن التلقين هو، قبل كل شيء، شكل من أشكال التعليم. لكن ما الذي يُميّز التعليم عن التلقين؟ هل هو القصدية؟ المحتوى؟ أم الطريقة؟ يمكن أخذ شرح بعض من فلسفة أوليفيي روبول التربوية، للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة تباعاً، لنبين نقاط القوة والضعف في كل إجابة. ونتيح لنا هذه التحليلات فرصة مناقشة بعض المفاهيم الأساسية مثل: البروباغاندا، الحياد المدرسي، العلمانية، البيداغوجيا اللاتوجيهية، إلى آخره. في الفقرة الثانية، نركز على دراسة التلقين من خلال ثلاثة حالات جزئية ملموسة: 1- غسل الدماغ. 2- التربية الكلية في النظام الهتلري. 3- التعليم الراهن.

خلص أوليفيي روبول من خلال هذه الدراسة الفلسفية التربوية العميقة إلى أن من أسس ومرتكزات البيداغوجيا التلقينية هي المفاهيم الأساسية الآتية:

  • الدعاية: والغرض منها استخدام المعارف بشكل مُغرض لغرض التأثير على آراء وتصورات المتعلمين ومعتقداتهم.
  • الحياد المدرسي: وهو مبدأ يُفيد بأنّ المؤسسات التعليمية يجب ألا تُروّج لأيّ عقيدة، أو أيديولوجية أو نزعة معينة.
  • العلمانية: وهي تشير إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة، بما في ذلك فصل التعليم الديني عن التعليم العام.
  • الأيديولوجية: منظومة من الأفكار والمبادئ والقيم والمعايير التي تُشكّل بنية النظام السياسي أو الاجتماعي أو التربوي المعين.
  • البيداغوجيا اللاتوجيهية: نهج تربوي معاصر يُتيح للمتعلمين حرية التعلم واكتشاف المعرفة بأنفسهم ولأنفسهم من خلال التعلم الذاتي، دون توجيه مباشر من المدرس.

بينما خصص الجزء الثاني من نص دراسة التلقين من خلال ثلاثة أمثلة ملموسة:

  • غسل الدماغ: عبر استعمال مجموعة من التقنيات السيكولوجية التي تهدف إلى إجبار الطلاب على تبني مجموعة مدروسة مسبقاً من المعارف والمعتقدات أو السلوكيات والأفكار والنظريات المعينة.
  • "التعليم الكلي" في النظام النازي: وهو نظام تعليمي كان هدفه هو غرس الأيديولوجية النازية في المتعلمين الألمان منذ سن مبكرة، وذلك باستعمال مزيج من التلقين والدعاية والتدريب الرياضي، حيث كانت الغاية منه تجنيد المتعلمين مستقبلاً من أجل الالتحاق بالثكنات العسكرية.
  • التعليم الراهن: وهو الآن مثار للنقاش حول إمكانية وجود التلقين في أنظمة التعليم الراهنة وكيفية تجاوزه، مُستكشفاً كيف يمكن لبعض الممارسات البيداغوجية وخيارات المناهج الدراسية والمقررات المدرسية أن تُعزّز بشكل غير مباشر الأيديولوجيات السائدة، وهذا ما ينتقده بشدة أوليفيي روبول.

هكذا إذن، نفهم خطورة الطريقة التلقينية، التي قد تقدم لنا ترسانة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي قد لا تراعي بل ولا تخدم قدرات وكفايات المتعلمين، كما لا تستجيب لحاجاتهم، بل هناك بعض المدرسين/الأساتذة من يضفون القداسة على الأفكار المجردة الفلسفية، و يعتبرونها أفكاراً مقدسة ويقينية غير قابلة للانتقاد والفحص والتمحيص والمساءلة والمراجعة والتجاوز، حيث نجد أن هذه الأفكار قد تتحول إلى سلطة أيديولوجية تطبق على المدرس ويطبقها على المتعلمين، ولهذا يجب على المدرس أن يتجاوز سلطة المقرر الدراسي، بل ويتجاوز المعارف الفلسفية والعلوم والنظريات والفنون والقيم والمعلومات الجاهزة.

ببساطة؛ ما كنت أحاول توضيحه هنا، هو أن الطريقة التلقينية في التعليم تحولت من شكل من أشكال التعليم السلبي إلى سلطة قاهرة تقتضي الامتثال والرضوخ، والتي تنعكس سلبا على السيرورة التعليمية التعلمية، حيث يتم التركيز على نموذج المتعلم المستوعب للمعارف السائدة والقابلة للحفظ والاسترجاع، كما يتم اعتبار أن هذه المحتويات والمضامين المعرفية عبارة عن حقائق ويقينيات مطلقة، فنسقط في هالة التقديس للمعارف، كما يصبح بموجبها المدرس هو المحتكر مالك السلطة المعرفية، إضافة إلى سيادة التلقين والدعاية والتدريب والأيديولوجيا والهيمنة والنمذجة وسيادة مشاعر التوتر والقلق والملل، وغياب التفكير النقدي الذاتي والحر والمتسلح بالإبداع والإستقلالية، فيولد رفض لتحليل أو مناقشة وفحص وتمحيص الكثير من الأفكار حولنا، ولهذا فبيداغوجيا التلقين هي ضد كل نقد وإبداع ، لهذا هي مرفوضة من قبل أوليفيي روبول.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد فرَّاح
كاتب ومتخصص في المجال التربوي
تحميل المزيد