الصحابي الجليل عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، القائد العظيم والسفير الأمين المحنك، فاتح مصر، وأحد سادات العرب، داهية العرب عقلاً ورأياً ولساناً، كانت له مكانة عند قومه لشهرته بالدهاء والمكيدة، وكان خطيباً بليغاً محباً للشعر، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى، كما كان معدودًا أيضًا من دهاة العرب وشجعانهم.
اسمه ونسبه ونشأته
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، وأمّه النابغة بنت خزيمة، ويُكنى بأبي محمد، كان رفيع النسب فقد كان والده أحد حُكّام قريش، ويلتقي نسبه مع الرسول ﷺ في الجد السابع، وهو كعب بن لؤي بن غالب القرشي. ويختلف المؤرخون في زمن مولد عمرو بن العاص، فذكر ابن حجر العسقلاني أنه كان عمره ليلة وُلد عمر بن الخطاب سبع سنين.
نشأ عمرو في جوٍ من الثراء ورغد العيش، فقد كان أبوه ثرياً واسع الثراء، فتعلم عمرو القراءة والكتابة، وعرف منذ صغره بحدة الذهن والذكاء وحضور البديهة وسعة الحيلة، كما عرف بالجرأة والشجاعة والفروسية، إلى جانب حبه للمال ونزوعه إلى السيادة وحب السلطان.
وقد عمل عمرو في مطلع شبابه بمهنة التجارة، وتعلم أصولها من أبيه، وقد تعرض أبوه لضائقة مالية، حيث فقد كثيراً من ماله وثروته بسبب الإنفاق على حل الخصومات، مما اضطر عمراً المزاولة مهنة الجزارة طلباً للكسب، فعمل جزاراً بـ "مكة" مدة من الزمن، حتى كثر ماله فعاد للتجارة، ثم تزوج من امرأة قرشية، وهي ربطة بنت منبه بن الحجاج السهمي، فأنجبت له عبد الله بن عمرو، أكبر أولاده.
إسلامه
تأخَّر إسلام عمرو بن العاص (رضي الله عنه) فقد أسلم في عمر السابعة والخمسين، فبعد وفاة العاص بن وائل جلس عمرو يفكر في أمر الإسلام، وقد رأى قوة المسلمين تزداد يوماً بعد يوم، وأن نصر الله يواكبهم، فأحس أن الإسلام هو الطريق الصحيح، وشعر بصدق رسالة رسول الله ﷺ، فعزم على أن يسلم، وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وقرر الذهاب إلى الحبشة عند النجاشي، فوجده اعتنق الإسلام، فاعتنق الإسلام هنالك على يد النجاشي في السنة الثامنة للهجرة الموافق 629م، ثم أخذ سفينة متجهًا إلى المدينة المنورة، فقابله خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة (رضي الله عنهما) يريدان نفس الأمر، فاصطحبوا جميعاً، وفي المدينة قابل عمرو رسول الله ﷺ، وبايع النبي الله على الجهاد، ففرح النبي الله بإسلامه، وحينها قال الرسول ﷺ: "إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها".
ولمَّا أسلم عمرو بن العاص (رضي الله عنه) كان النبي ﷺ يُقرِّبه ويُدنيه منه، وقد بعث إليه يوماً وقال له: "خُذْ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتِني، قال: فأتيته وهو يتوضأ فصعَّدَ فيَّ النَّظَرِ ثم طَأطأَهُ فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلِّمُكَ اللَّهُ ويغنِّمُكَ، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، قال: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله ﷺ، فقال: يا عمرو، نِعمَ المال الصالح للمرء الصالح".
شجاعته
في غزوة أحد خرجت قريش بحدها وحديدها وجدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وكان منهم عمرو بن العاص (رضي الله عنه) خرج بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم ابنه عبد الله، وكان عمرو مشركاً آنذاك. وفي يوم الأحزاب: عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تطيف بالخندق، وتطلب غرة ومضيقاً من الخندق، فتقتحم فيه، وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك يطلبان الغفلة من المسلمين.
دهائه
نقل المؤرخون كالذهبي وغيره أن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) كان يتمتّع بالدّهاء والذّكاء، وكثرة حيله وسعة فهمه وسرعة بديهته وسداد رأيه، وقد كان حازماً مُجيداً بإعطاء الحلول والقرارات والآراء، وفعالاً في الحروب، فقد كان عمرو بن العاص من دُهاة العرب في زمانه مع معاوية والمغيرة، وكان أدهاهم في حلّ المعضلات، وكان كذلك حتى قبل إسلامه، وكان من أمراء قومه وأشرفهم، ومدحه النبي ﷺ ووصفه بالصلاح، فقد قال عمرو (رضي الله عنه) إنّ النبي ﷺ قال له: (يا عَمرُو، إنِّي أُريدُ أن أَبعثَك على جَيشٍ فيُغنِمَك اللهُ، وأَرغَبَ لك رغبةً منَ المالِ صالحةً، قُلتُ: إنِّي لم أُسلِمْ رغبةً في المالِ، إنَّما أَسلَمْتُ رغبةً في الإسلامِ، فَأكونَ معَ رَسولِ اللهِ، فَقال: يا عمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ).
كرمه وورعه
من صفات القائد العظيم المحنك، الكرم والورع والصدق، ومن تتبع تراجم عمرو يجد هذه الصفات متمثلة فيه، ومن دلائل ذلك: أن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) لما كان عند الموت دعا حرسه فقال: أي صاحب كنت لكم؟ قالوا: كنت لنا صاحب صدق تكرمنا وتعطينا وتفعل وتفعل. وحصل ذات يوم بين عمرو بن العاص وبين المغيرة بن شعبة كلام في الوهط، فسبه المغيرة فقال عمرو: يا آل هصيص، أيسبني ابن شعبة، قال ابنه عبد الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، دعوت بدعوى القبائل، وقد نهى رسول الله ﷺ عن دعوى القبائل، قال: فأعتق ثلاثين رقبة.
حلمه
تقدم أن من صفات القائد العظيم المحنك، الكرم والورع والصدق، وقد وجدت هذه الصفات في عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، ففي عام طاعون عمواس لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم محمد، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، قال: فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال، فقال أبو وائلة الهذلي: كذبت والله، لقد صحبت رسول الله وأنت شر من حماري هذا. قال: والله ما أرد عليك ما تقول وأيم الله لا نقيم عليه، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا ورفعه الله عنهم، قال فبلغ ذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
جهاده
كان عمرو (رضي الله عنه) شغوفاً بالجهاد وكان شغله الشاغل لينصر دين الله، ولكي يرزقه الله الشهادة، ولبصره بالحرب وخبرته بفنون القتال، زيادة على ما تقدم كان محط الأنظار لتوليته أميراً للمجاهدين، فلذلك لما أسلم سنة ثمان أمره النبي ﷺ في ذات السلاسل وأحسن في إمارته، وفعل أفعال تدل على قوة ذكائه وبصره بالحرب. وشارك (رضي الله عنه) في قتال أهل الردة، وفي فتوح الشام في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقاد فتح مصر في عهد عمر رضي الله عنه، وكان أحد أمراء الأجناد، وأبلى بلاء حسناً.
عبادته
من المعلوم أن الصحابة (رضوان الله عليهم) من أحرص الناس على فعل الطاعات على تفاضل بينهم، وعمرو بن العاص (رضي الله عنه) كما أنه من أهل الإمارة والجهاد، وكان كذلك له نصيب وافر من العبادات الأخرى، فعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص كان يسرد الصوم، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل أكثر ما كان يصيب من السحر، قال وسمعته يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إِنَّ فَصْل ما بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ".
تواضعه
عن الحسن البصري: قال: قال رجل لعمرو بن العاص: أرأيت رجلاً مات رسول الله ﷺ وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال : "بلی". قال: قد مات رسول الله ﷺ وهو يحبك، وقد استعملك". فقال: "قد استعملني، فوالله ما أدري أحباً كان لي منه، أو استعانة بي، ولكني سأحدثك برجلين مات رسول الله ﷺ، وهو يحبهما عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
عدله وأمانته
لم يعرف عن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) ظلم الرعية أثناء الأعمال التي تولاها بل كان يترفق بهم ويراعي أحوالهم، فضلاً عن أنه كان موضع ثقة الخليفة العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فجعله أميراً على مصر طوال حياته، ولو رأى منه ما يخالف الجادة لعزله وولى غيره كما عزل غيره من العمال.
ومن صور عدله أنه تأخر في استلام الخراج من أهل مصر إنظاراً لهم حتى كتب إليه عمر (رضي الله عنه) في ذلك، فكتب إليه عمرو بن العاص (رضي الله عنه): بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام عليكم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أعند عن الحق وأنكب عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيراً من أن يخرق بهم فيصيروا إلـى بيـع مـا لا غنى بـهـم عنـه والسلام).
وفاته
ظل عمرو (رضي الله عنه) يحكم مصر ثلاث سنوات بعد عودته إليها حتى تجاوز الثمانين من عمره، فمرض مرض الموت، فبكى، وحول وجهه إلى الحائط، وتذكر إسلامه وجهاده مع رسول الله ﷺ والخلفاء من بعده، وتمنى أن لو كان مات قبل وقوع الفتنة، ثم رفع بصره إلى السماء وهو يبكي، وقال: اللهم لا قوي فانتصر ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، وإلا تدركني برحمة أكن من الهالكين. ثم راح يردد: لا إله إلا الله. فما زال يقولها حتى مات، وكان ذلك ليلة عيد الفطر سنة 43 ه، ودفن برية بجوار جبل المقطم بالقاهرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.