امتاز هذا الدين العظيم (الإسلام) بشموليته التي لا تترك جانباً من جوانب حياة الإنسان إلا ووضعت له مقاصده وأحكامه وضوابطه، ومنها شؤونه الدنيوية وما ينفعه في معيشته وما يخدم مجتمعه، وذلك وفق المقاصد الإسلامية الأساسية وفيما يرضي الله تعالى، فالإسلام يحث المسلمين على إعمار الأرض واستصلاحها، وجعل ذلك أحد المقاصد الأساسية من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]؛ فالإنسان المسلم من مسؤوليته تعمير الأرض ورعايتها لكي تصبح صالحة للحياة المستقرة السعيدة، ولكي ينتفع من خيراتها ويقوم بوظيفة الاستخلاف على أكمل وجه، فيحقق بذلك مرضاة الله تعالى، ويخدم أهله وبني جنسه، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].
وتأتي دعوة الإسلام لإعمار الأرض ضمن منهجه المتوازن في مراعاة متطلبات الروح والجسد عند الإنسان، فيطلب من المسلم أن يسعى فيما ينفعه ويعمل على رعاية أهله وخدمة مجتمعه وبلده.
ولأن الله تعالى جعل عمارة الأرض وإصلاحها وظيفةً للإنسان ومقصداً من مقاصد خلقه واستخلافه فيها، فقد حرم الفساد والإفساد في الأرض، فالفساد نقيض الإعمار والإفساد ضد الإصلاح، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، وكرر الله تعالى بغضه للفساد والمفسدين فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، وقال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: 64]، ولأن الله تعالى يحرّم الفساد وينهى عن الإفساد في الأرض، فقد جعل لارتكاب تلك الجريمة أشد العقوبات وأقساها في الدنيا والآخرة فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
وعمارة الأرض لها جوانب وصور متعددة، ومنها الجوانب المادية كالزراعة والصناعة واستخراج ثروات الأرض وخيراتها، فالله تعالى سخر جميع ما في هذا الكون لخدمة الإنسان، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].
وقال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13]. ولذلك فقد مارس جميع الأنبياء والصالحين المهن والحرف المختلفة كسبل لإعمار الأرض والعمل بها بما يخدمهم وينفعهم، قال الله تعالى عن سيدنا داوود عليه السلام: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80]، والله عز وجلّ خصّ الحديد بالذكر في سياق التذكير بهذه النعمة والحكمة من خلقها، فقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: 25].
والله سبحانه وتعالى أباح للناس السعي في الأرض وطلب الرزق بشتى الأساليب والطرق طالما كانت ضمن دائرة ما أحل الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
ونجد في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تحض على إعمار الأرض والإصلاح في كل زمان ومكان، فحث على العمل والكدح والسعي في طلب الرزق الحلال، وذلك في الحديث الذي رواه المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكلَ أحدٌ طعاماً قطُّ، خيراً من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ " (البخاري: 2072). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أو يَزْرَعُ زَرْعاً فيَأْكُلُ منه طيرٌ ولا إنسانٌ إلا كان له به صدقةً" (البخاري: 2320)، وفي حديثٍ آخر لأنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها" (أحمد: 12512).
وقد ورد في آثار الصحابة الكرام ما يوافق هذا المنهج السوي الذي أقرّه القرآن الكريم وحضت عليه السنة النبوية، فقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزُقْني؛ فقد علمتم أن السماءَ لا تُمطِر ذهباً ولا فضة)، وقوله أيضاً: (إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت عنه فقيل لا حرفة له، سقط من عيني)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إني لأكرَهُ أن أرى الرجلَ فارغاً، لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته).
هذا هو منهج الإسلام الذي ينظر إلى العمل الدنيوي والإنتاج البشري كجزء من عبادة الله تعالى، فالمؤمن العامل والمجتهد يكافأ على عمله في الدنيا ويؤجر عليه في الآخرة كذلك، إذا كانت نيته خالصة لله في عمله وسعيه لرزقه ورزق عياله، وفي ذلك دلالةٌ عظيمة على عظمة الإسلام الذي جعل من إعمار الأرض واجباً دينياً وأخلاقياً، ولم يجعله مقتصراً على كونه ضرورةً إنسانية لضمان معيشة الإنسان وخدمة مصالحه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.