كيف ندرس الفلسفة باللافلسفة؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/06/25 الساعة 12:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/06/25 الساعة 12:24 بتوقيت غرينتش
تمثال لأرسطو في اليونان - istock

لطالما كان الإشكال الأساسي المرتبط بالفلسفة نابعاً من داخلها ومنحصراً في حدودها، وهو: هل ندرس الفلسفة عبر تاريخها أو عبر أداوتها؟ بمعنى آخر: هل ندرس الفلسفة أم نمرن على ممارسة التفلسف؟ حتى إن الإلحاح على طرح هذا الإشكال قد غشى على الرؤية الفلسفية وأفقدها بعد النظر، وليس هذا البعد إلا انعتاقاً من أغلال الداخل الذي ما يبرح يستبد بكل سؤال وإشكال، فنعتقد أن كل ما يجب أن نطرحه بخصوص تدريس الفلسفة ينبغي أن يكون مستقى من الفلسفة ذاتها، وما يرتبط بخارجها بجب دفنه وقبره والتنصل منه، لأنه عائق أمام الفلسفة والتفلسف معا، وهذا دفع الفلسفة إلى الانحشار في دائرة العوالم المتعالية الفاسحة، والتي – بفساحتها – تتضايق وتتشنج، لأنها تظل محدودة، ومحدوديتها يفضحها الواقع، إذ إن الأفكار المتعالية التي لا ترتد إلى الواقع وتعكسه وتنعكس فيه تتلاشى حتماً حينما تلتقي به أو حينما تصطدم بأهواله وتعقيداته وتشعباته، فلا عجب أن تترفع هذه الأفكار وتتجرد عن الواقع طالما أنها تضمن بقاءها واستمرارها عبر تاريخ الفلسفة الذي خلدها وطالما أنها تتقوى وتتعزز عبر العمل بالأدوات التي أنتجتها من تأمل وتفكير ودهشة وسؤال وشك، والانكباب على ممارستها بشكل لا يغير وضعاً ولا يضيف شيئاً. 

فلا التذرع الأول ينفع الدرس الفلسفي من الحشو المتخم والشحن بالمعلومات الفارغة من المعنى والغارقة في المثالية والمستغرقة في التجريد وحشرها بطريقة عبثية تؤدي إلى تناثرها وتشتتها، ما يجعل الفلسفة مادة مملة جالبة للضجر، وليس أضر بالفلسفة من خطاب لا هو يحض على الفعل ولا هو يذكي الانفعال، لا هو يحادث العقل ولا هو يحرك العاطفة، فهذا إذا لم يحول الفلسفة إلى مادة مكروهة فإنه يجعلها مدعاة للسخرية على تشابكاتها وتعقيداتها ومحط الازدراء من مقوليها ومدرسيها. 

ولا التذرع بالثاني – أي ممارسة التفلسف – يشفع لها بأن تكتسب شرعية احتواء الواقع ما لم تساهم في تغييره، إن على مستوى الأفكار عبر تبديد المحنط منها وتفتيت المتحجر فيها أو عبر محاربة التفاهة ومجابهة البلاهة ومقارعة الغباوة والسخافة، وإن على مستوى الأفعال عبر تقويم السلوك المعوج وتسديد الخلق وتخليق الفعل والتشجيع على الإبداع والابتكار والإنشاء.

 وإن نحن صرفنا التفكير في هذين التذرعين اللذين يتخذهما الدرس الفلسفي ممرا من أجل استمراء الكيفية التي ينقل بها المحتوى الفلسفي، قصد استنهاض ما يجب استنهاضه من كفايات ومهارات وقدرات تستلزمها الممارسة الفلسفية سواء الفصلية منها أو خارج الفصلية، فإننا نكون بالفعل خارج الفلسفة، وهذا الخارج يعج بأشكال لا فلسفية أو البوب – فلسفة كما يصفها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، لكن ما ليس فلسفياً لا يعني بالضرورة أنه مضاد أو معاد للفلسفة، بل قد يكون داعماً لها شريطة أن تتخلص من نخوتها وتشامخها، وعلى الفيلسوف (المدرس) – حسب دولوز – أن يكون لا فيلسوفاً حتى تصير اللافلسفة أرض الفلسفة وشعبها. إن اللافلسفي يعني الخروج من الفلسفة عن طريق الفلسفة، فلا يجب أن نغالي – والأمر هكذا – في الإقرار بأن طرق تدريس الفلسفة ديداكتيكيا يمكن أن نغترفها من وعاء نظرياتها وأفكارها وتاريخها أو نمتحها من معين أدواتها وأساليبها وأنماط التعبير عن نفسها ضاربين بالصفح عن كل ما يحيق بالفلسفة من تشكيلات واقعية تنبثق من الوسط الشعبي حيث ينم تداول الفلسفة – وإن بشكل غير مباشر – عن وجود فلسفة بالفعل، أو بالأحرى وجود مادة غنية وثرية يمكن أن نكتنزها بغية خدمة الدرس بما يساهم في تحريك مشاعر المتعلمين بالاتجاه الذي يكفل لهذا الدرس أن يحظى بمزيد من الإقبال والتفاعل، على اعتبار أن الوتر الحساس الذي يجب اللعب عليه إنما يكمن – بالدرجة الأساس – في الانطلاق من الواقع اليومي والمعاش للمتعلم لأشكلته ودب روح التفلسف في تجاويفه، أما عكس ذلك، فلا يمكن أن يؤدي بنا إلا الى الجمود والانقباض، إذ لا يعقل أن نطمح إلى توليد معرفة عالمة من المتعلم عن طريق توظيف المعرفة العالمة نفسها، فنحن نتوخى تحقيقها لا الانطلاق منها.

يحق لنا أن نقول إن الواقع ينطوي على فلسفة تقتضي استبصاراً ونظراً عميقاً لاستخلاصها واستقرائها، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت المفاهيم والإشكالات الفلسفية التي تطرح داخل ردهة الدرس تصل صلتها بالواقع، وهذا ما يمكن أن نسميه بالفلسفة الواقعية – الشعبية Philosophie réaliste populaire، لكن، هنا يخامرنا إشكال تتفرع منه مجموعة من الأسئلة وهو: إذا كانت الفلسفة تنطلق من الواقع فهل ذلك ينتفي مع مبادئها ويتناقض مع أسسها العقلية والمنطقية؟ أو بعبارة أخرى، هل عودة الفلسفة إلى الواقع خيانة لذاتها خصوصاً وأنها كانت إلى وقت قريب تحتقره وتنشد المثل المجردة؟ هل الواقع يتكلم الفلسفة؟ وإذا كان يتكلمها فكيف؟ وأين تتبدى فيه؟ هل تتبدى فيه لأنه يطرح إشكالات بخصوص ما يحدث فيه باستمرار أم لأنه يثوي نمطاً من التفكير يمكن للفلسفة أن تقبل به؟ وإذا كان هناك من نمط فماذا يكون؟ وهل ما تفعله الفلسفة في الواقع هو محض استشكال أم محض تغيير أم هما معاً؟ وهل تتلين صلابة الفلسفة إذا احتكمنا فيها إلى ما هو شعبي؟ وهل ما هو شعبي هو بالضرورة؟ 

هذا السؤال الأخير ينقلنا إلى قضية أخرى لا تنفصل بتاتاً عن مفهوم اللافلسفي في الدرس الفلسفي، فإذا نحن حددنا الشعبي فيما يتفاعل الناس حوله وداخله ويطيب خاطرهم له ويستروحون به فإننا نوسع دائرة اللافلسفي لتشمل ما ليس واقعيا، واللاواقعي لا يعني ما هو خيالي دائماً، بل قد يعني ما يتجاوز الواقع تجاوزاً يكاد معه يظهر في حلة لا يظهر بها في الحقيقة، أو يتبدى فيها مجزءاً وبسيطاً، ولبساطته يتخفف من أثقال التعقيد وأعباء التفاصيل التي لا طائل يرجى منها، وأقصد هنا نوعين من اللافلسفة: النوع الأول يمكن أن نسميه بالفلسفة عبر الوسائط الفنية والأدبية كالسينما والرقص والعمارة والأدب والرسم… والنوع الثاني يمكن أن نسميه بفلسفة الميكرو حيث تسلط الأضواء على مواضيع جزئية تقع ضمن اللامفكر فيه داخل المجتمع لمجرد أنها تتكرر وتمارس بشكل اعتيادي كمواقع التواصل الاجتماعي والأكل والمشي والكلام… فضلاً عن الشق التي تحدثنا عنه سابقاً والمتعلق باليومي والواقعي.

إن سعي الفلسفة الحثيث إلى التخلص من أثقالها النسقية قد تكلل في آخر المطاف بالنجاح، خصوصاً أن الفلسفة النسقية التي كانت سائدة في فترة من الفترات ذبلت أوراقها نتيجة تغير المناخ الاجتماعي والاقتصادي، ما عدد أوجه الواقع، حتى بتنا نتحدث عما يسميه جان بودريار بفائض الواقع أو الواقع السوريالي، بحيث إن التعامل معه أضحى في غاية الصعوبة، وهذا لا يعني أن الانفتاح عنه يدفع الفلسفة إلى تبني هذه الصعوبة، بل بالعكس، فالأهم منها ليس تحليل الواقع المعقد والمتشابك، فهذا من اختصاص السوسيولوجي، بل تنحصر مهمتها في أشكلته عن طريق إبراز مفارقاته وتناقضاته التي تكتنف أحداثه، وفي مفهمته كذلك عن طريق كشف المفهوم المتواري خلف هذه الظواهر، فأن نتحدث عن الحرية مثلاً يعني أن نعتمد على وضعيات اجتماعية تحمل في طياتها معنى الحرية وإن بشكل مضبب ومشتت، فنلحظ تباين الآراء والمواقف حول هذه الوضعيات، والأكيد أنها ستختلف وتتباين، وفي اختلافها وتباينها تناقض، والتناقض هو مرتع الإشكالات، فنطرح السؤال عن ماهية الحرية، حينئذ يتسنى لنا الانتقال إلى تحديد المفهوم فلسفيا بعد تحديده واقعياً، والتحديد الفلسفي للمفهوم لا يعني أبداً القطع مع الواقعي منه، بل بعد تحديده نعود الى البحث عنه مجدداً في الواقع، أو نستخدم ونوظف في سبيل توضيحه وإبرازه وسائط لا فلسفية كاستحضار فيلم أو الإتيان بصورة أو بلوحة فنية تضمر في داخلها المفهوم، وهذا يتيح للمتعلم إمكانيتين: الأولى الانخراط في النقاش العمومي الذي تدور رحاه حول مفاهيم اجتماعية كالحرية أو سياسية كالسلطة أو أخلاقية كالتسامح… الشيء الذي يمكنه من ممارسة الفلسفة بحيث تبقى راسخة عنده كفعل لا كمعلومات. الثانية هي تدريبه على التأويل والنظر العميق إلى الأشياء، فليس من السهل أن نستخرج الفلسفة من اللا فلسفة، فالسينما مثلا تعرض فيلماً يتضمن فحوى ومحتوى معيناً لا تعلنه في السيناريو مباشرة، بل يترجم إلى أحداث ووقائع تثوي المفهوم والإشكال. 

إن الفلسفة الشعبية التي ننشدها تنفر من الانكباب في التفكير في المفاهيم الكبرى المجردة التي يشبهها دولوز بـ "الأسنان المسوسة "، فـ"فلسفة البوب" لا تلوذ إلى داخل المفهوم فتحفر فيه بأدواتها الثقيلة، بل تبحث عنه في خارجها، إنها لا تنقب في المراكز بل في الهوامش، في المسودات، هي دعوة إذن إلى الانعتاق من أسر الفلسفة التقليدية النظرية والأكاديمية التي اشتطت بالتفكير الإنساني وجمدت عمله هناك خارج الواقع حيث لا توجد فلسفة، بل كل ما يوجد هناك هو أصنامها وأوثانها المقدسة، إن اللافلسفي إذن هو خروج من الفلسفة عن طريق الفلسفة ذاتها. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
إبراهيم ماين
باحث في الفلسفة
باحث في الفلسفة
تحميل المزيد