يتسلل إليك بصمت دون استئذان، تتفاجأ به ويكون قد تمركز واستقر بأرجاء متفرقة من جسمك، في بعض الأحيان بحيرات صغيرة مبعثرة هنا وهناك، وأحياناً أخرى بحور ومحيطات تكون قد غزت هذا الجلد المسكين. فلا تحاول عبثاً، فهذا زائر قدم ليبقى ولن يغادرك ببساطة، في بادئ الأمر ستكرهه وتحاربه ومن ثم ستتعلم التعايش معه ومن ثم ستصالحه وتصبح صديقاً له وربما لا تريده أن يغادر، فيا ترى من هو هذا الزائر؟ إليكم قصتي مع البهاق!
بداية دعونا نتعرف على ماهية البهاق، وقبل البدء ربما تتساءلون لماذا أسميه الضيف أو الزائر ولم أشر له بمصطلح (مرض)؟ لأنني وبكل بساطة أرفض أن أعتبره مرضاً، خصوصاً بعد أن أصبحت بيننا علاقة ود وصداقة.
ما هو البهاق وما هي أسبابه؟
لأخبركم في البداية ما هو البهاق وما هي أسبابه وبعد ذلك سأخبركم كيف زارني هذا الضيف دون سابق موعد، وتفاصيل رحلتي معه منذ الطفولة.
البهاق هو مرض مكتسب عبارة عن بقع فاتحة اللون على الجلد؛ حيث إن نسبة انتشار المرض هي 1% بين مجموع السكان في جميع أنحاء العالم دون علاقة لأصل أو لجنس، بمعنى آخر وبنظرة إيجابية للأمر من أصيب بهذا الزائر يعد من القلة القليلة حول العالم التي اختار هذا الزائر أن يميزها بحضوره، 50% ممن يزورهم ضيفنا لم يكونوا قد بلغوا العشرين من عمرهم.
تم التعرف على هذا الزائر منذ 1000 سنة قبل الميلاد من خلال الحضارة الهندية والبوذية حيث إن هذه الحضارات لم ترحب بالضيف الزائر (البهاق) كما يتوجب، وفي الغالب كان يتم نفي من ظهرت عليهم سمات هذا الضيف الصامت خارج المجموعة السكانية. سبب الإصابات بالبهاق يكمن في تضرر الخلايا الميلانينية المنتجة للميلانين والتي هي مادة اللون في الجلد حيث يكون هناك نقص بالميلانين بسبب نقص الخلايا الميلانينية. والآن وبعد أن تعرفنا بشكل مقتضب وسريع على ضيفنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:
كيف يختار ضيفنا من يزور وعلى أي أساس؟
ربما من أبرز المواصفات التي يختارها ضيفنا (البهاق) فيمن سيزور تكمن أن أحد أفراد العائلة قد تمت زيارته من البهاق مسبقاً. أو وجود تاريخ عائلي لأمراض المناعة الذاتية الأخرى مثلاً فإذا كان أحد والديك مصاباً بفقر الدم الخبيث والتي هي حالة من أمراض المناعة الذاتية قد يؤثر هذا على زيادة فرصة إصابتك بالبهاق. وجود حالة أخرى من أمراض المناعة الذاتية، أو الإصابة بسرطان الجلد، أو سرطان الغدد الليمفاوية الهودجين، كذلك وجود تغيرات معينة في الجينات المعروفة بأنها مرتبطة بالبهاق، أو التعرض لصدمات نفسية وعاطفية.
والآن دعوني آخذكم معي برحلة سريعة منذ طفولتي ومغامرتي وتجربتي التي عشتها مع هذا الضيف:
لقد بدأت مغامرتي عندما كنت في السابعة من العمر، حيث كنت طفلة عفوية ومحبة للحياة والأصدقاء، كنت في بداية مغامرة اكتشاف أسرار الحياة واللعب واللهو مع الأصدقاء والدراسة وأمور كثيرة في مرحلة الطفولة وبداية الحياة، لقد كنت مفعمة في الحياة والحيوية محبة للحديث عن مغامراتي التي بدأت أن أعيشها في محيطي الصغير، إلا أنّ هذه المغامرات والاكتشافات أخذت منحى آخر، وبشكل مفاجئ انقلبت هذه المغامرة إلى اكتشافات من نوع آخر، فقد تفاجأت أن هناك زائراً قد اقتحم حياتي دون سابق استئذان أو إنذار.
فقد ظهرت أول بقعة بيضاء على جسدي والتي اكتشفتها والدتي بمحض الصدفة حيث أخذت بالتمعن بها محاولة التعرف على هذا الزائر الذي كان اكتشافه ثقيلاً على النفس في حينها، تارة مصدقة لما ترى وتارة رافضة له.
وبدأ ألف سؤال وسؤال يدور في ذهن والدتي وحتى ذهني الصغير الذي يحاول أن يفهم ويستوعب، ما هذه البقعة؟ وما الذي جاء بها إلى جسدي؟ وماذا قد تكون؟ وعندها استنفرت والدتي كافة الجهات والإمكانات لتطويق هذا الزائر الغريب، وحشدت له من كل حدب وصوب.
أخبرت والدي الذي كان في حينها في العراق يغطي الحرب الدائرة هناك إبان الغزو الأمريكي للعراق بحكم أنه صحفي.
في غالب الأحيان كان والدي يسعى لمعالجة الأمور دون توتر ظاهر، حتى لو كانت هناك حرب دائرة في رأسه، إلا أنه لم يحد بتعامله مع هذه المسألة عن ذلك، ربما صرخ بصمت وصبر وصارع بهدوء عاصف لكنه لم يبدِ لي على الأقل هذا الصراع والصراخ الصامت.
بعد مداولات تقرر للطفلة الشقية المحبة للعب البدء في زيارات مكوكية إلى الأطباء لمعرفة ما سبب تحول لون جلدها من لونه الطبيعي إلى اللون الأبيض؟ ليكون جواب الأطباء محيراً أكثر منه مجيباً عن هذا التساؤل؛ حيث قال الأطباء إن هذه حالة نادرة لم نرَ مثلها من قبل، بحكم أن أياً من الأسباب سابقة الذكر والمسببة للبهاق لم تكن متوفرة ولم أكن أنا أو أي فرد من عائلتي يعانون منها.
العلاج؛ ما العلاج وما أدراك ما العلاج:
بدأنا في مرحلة تجارب العلاج دون المعرفة الحقيقة لهذه الحالة الغريبة من تحول لون الجلد إلى اللون الأبيض؛ لتبدأ رحلة البحث عن علاج من الأردن إلى العراق ومصر ولبنان وإسبانيا وكل ما يمكن أن تقع عليه يد والدي من علاج تم إحضاره، وعلى ما يبدو كان الزائر يمتعض قليلاً من تصرفاتنا هذه فيغادر لمدة من الزمن لكنه سريع الاشتياق فيعود مرة أخرى مسرعاً لكن على خجل وحذر فلم يظهر نفسه كما فعل في زيارته الأولى.
بات واضحاً أن رحلة العلاج هذه ستأخذ الكثير من الوقت ورويداً رويداً بدأت تتحول مرحلة شغف الطفولة واللعب والانفتاح إلى مرحلة الالتزام في مواعيد الأطباء ومواعيد الدواء، وبدأت تنسحب المتعة تدريجياً وبدأت أنغمس أكثر فأكثر في معركتي مع هذا الضيف الثقيل غير المرغوب فيه في تلك المرحلة من عمري، وبدأت تتشكل لديّ شخصية تارة أحبها وتارة أكرهها، ولكن كما يقال ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
في أوقات كثيرة اجتاحتني مشاعر اليأس والتخلي وسوداوية العيش وانعدام الثقة بالنفس والخوف من مواجهة الناس والانعزال عن المجتمع، وخصوصاً أننا نعيش في مجتمعات تهتم للشكل والمظهر أكثر مما تهتم للجوهر، وبطبيعة الحال كانت نظرات من حولي حتى وإن لم يقولوا كلمة واحدة تقول الكثير. لم يكن التعرض للتنمر في هكذا مجتمعات ليغيب عن المشهد من محيطي، لكنهم معذورون فهم لا يعلمون ولا يعرفون ولا يرغبون أن يعرفوا فالجهل للأسف في مجتمعاتنا أكثر أريحية من المعرفة.
لم يكن بمقدوري مواجهة كل هذا التنمر فما عسى طفلة في السابعة من عمرها أن تفعل ضد كل هذا الجهل. كنت دائماً أحاول الهرب وإخفاء ملامح وجهي من خلال إنزال شعري على وجهي وأقوم بسحب أكمام السترة لأخبئ بها يداي، وهكذا تحولت الطفلة من طفلة مفعمة بالحيوية وكثيرة الكلام وكثيرة الضحك إلى الطفلة التي تتجنب الحديث مع الأشخاص وتتجنب اللعب وتفضل العزلة والانسحاب إلى عالمها الخاص، ومن هنا بدأت أدرك أن لي في الخيال حياة أخرى، حياة مليئة بالأمل وبهجة تجتاحني كأنها تسونامي من المشاعر الإيجابية ونظرة تفاؤل وأمل للمستقبل.
أدركت أنني قد أضعت عشر سنوات من عمري وأنا ووالداي نبحث عن علاج دون جدوى، أنا لا أقول إن العلاج لم يفلح وبشكل مطلق إطلاقاً فقد حصر الزائر في مساحة ضيقة واختفى من مساحات أخرى كالوجه مثلاً، لكنني ورغم ذلك أدركت أننا كنا نبحث في المكان الخاطئ وعن العلاج الخاطئ.
كان العلاج دائماً أمام عيني ولم أكن أراه ربما لما سمعته أذناي من إيذاء نفسي وكلام لا يخرج سوى من جهلة أفواههم لا تبث سوى السموم.
قررت أن أنهض من مكاني الذي أنا فيه وأنفض عنى جهل من حولي وأن أتقبل أقرب صديقي الذي لا ينفك يتمسك بي ولا يريد أن يغادرني ويقبلني كما أنا وما أنا عليه، لا يسعى لتغييري بل سعى لأن يجعلني شخصاً مميزاً ضمن هذا العالم الواسع الذي لا يزور منه هذا الضيف سوى القلة القليلة.
عندها أدركت أن اختياري لم يكن عبثاً، هكذا اختارني الله لأن أستضيف أحد خلقه معي طوال عمري ويا له من شرف عظيم.
عندها تصالحت مع نفسي ومع ضيفي وتوقفت عن محاربته وتقبلت نفسي كما أنا، تعلمت أن أحب نفسي كما أنا، فمن أراد أن يتقبلني كما أنا فأهلاً وسهلاً، وإلا فوقتي وأنا أثمن من أن أفسح المجال لجاهل يكسرني أو يحبطني مرة أخرى، لقد مضى هذا الزمان إلى غير رجعة.
ومن هنا أستطيع القول بأنه مضت عشرون عاماً كاملة وأنا أحتضن البهاق هذا الضيف الخفيف الجميل والذي صنع مني شخصية قوية باتت تؤثر في الآخرين إيجاباً.
أتحدث عن تجربتي هذه دون خجل أو تردد فعساها تلهم شخصاً ما في مكان ما يبحث عن فسحة من الأمل تضيء له أو لها طريقاً ربما اتسم بالعتمة والظلمة لكن وبكل تأكيد سيسطع النور في آخره لا محالة، فقط آمنوا بأنفسكم وصادقوا أنفسكم وتصالحوا مع أنفسكم وحينها ستجدون أنفسكم.
وإلى هنا تكون قد انتهت قصة صداقتي مع البهاق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.