في عصرنا هذا، تلعب التكنولوجيات الحديثة في مجال الإعلام والاتصالات دوراً محورياً في تشكيل المجتمعات وإعادة تعريف أنماط حياتنا. هذه التقنيات لم تحدث تحولات سطحية فحسب، بل أحدثت ثورة جذرية تمس كل تفاصيل حياتنا اليومية، سواء في العمل، التجارة، التعليم، البحث العلمي، أو حتى في تربية الأطفال وتعليمهم. كما فتحت آفاقاً جديدة للاستمتاع بالفن والثقافة والانفتاح على حضارات مختلفة، ما يعزز تقارب الأفكار ويزيل الحواجز بين الثقافات المتنوعة. المعلومة باتت تحتل مركز الصدارة في هذا التفاعل العالمي، ما أسهم في تشكيل ما نسميه اليوم بمجتمع المعلومات.
تم تعريف مجتمع المعلومات خلال قمة جنيف لعام 2003 بأنه "مجتمع يتمركز حول الإنسان ويسعى نحو التنمية، حيث يمكن لكل فرد خلق المعلومات والمعارف والوصول إليها واستخدامها بفاعلية". الأدوات التكنولوجية المتطورة أصبحت العمود الفقري لنهضة وتطور المجتمعات في العصر الحديث. وفي هذا المجتمع المعلوماتي، يكفي أن يمتلك الفرد جهازاً متصلاً بالإنترنت ليصبح عضواً نشطاً ومؤثراً ضمن هذا النسيج الاجتماعي الواسع. من هنا، ظهرت مصطلحات جديدة مثل "المؤثرون" على منصات التواصل الاجتماعي و"اليوتوبرز"، وهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الديناميكية الجديدة لتبادل المعلومات والتأثير في الرأي العام.
إذ تمثل وسائل الاتصال اليوم، أدوات مرنة وذات تكلفة منخفضة وسرعة فائقة في استقبال ونشر المعلومات، ما يمكنها من إعادة رسم الأنماط الاجتماعية وتغييرها من خلال الوسائط الرقمية. هذا الأمر يُعرف بـ"الهندسة الاجتماعية"، وهي تقنية تؤثر على سلوكيات المجتمع وأنماط حياته وأفكاره بشكل شامل. كما تُعرف من الناحية الأمنية بأنها فن استغلال علم النفس البشري للوصول إلى المباني أو الأنظمة أو البيانات، بدلاً من استخدام تقنيات الاختراق التقليدية. وتعتمد هذه العملية على جمع البيانات واستخدامها لبناء الثقة، ثم الاحتيال والتأثير على الآخرين.
تُطرح السؤال حول ما إذا كانت الهندسة الاجتماعية تمثل ثغرة يمكن من خلالها اختراق سيادة الدول. من ناحية أخرى، فإن التقنيات الحديثة في مجال الاتصال والإعلام لم تخلق مجتمع المعلومات فحسب، بل أفرزت تحديات أمنية وسياسية يصعب تداركها بالتساوي عالمياً بسبب وجود الفجوات الرقمية. هذه الفجوات تعزى أحياناً إلى الإرادة السياسية للحكومات وأحياناً أخرى إلى النقص في البنية التحتية اللازمة لتكنولوجيا الإعلام والاتصال.
تساهم التكنولوجيا الحديثة بشكل كبير في تعزيز المشاركة السياسية من خلال توفير وسائط وقنوات إعلام واتصال رقمية تمكن من المشاركة الشعبية الواسعة ورفع مستوى الوعي العام. تسمح هذه الوسائط للأفراد بطرح أفكارهم واختيار البدائل للتفاعل السياسي بطريقة منظمة ومتفاعلة. وهنا تبرز نقطة التلاقي بين الهندسة الاجتماعية والتكنولوجيا الحديثة، حيث يتم استخدام هذه الأدوات للتأثير وإعادة تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي.
فنجد شركة جيغسو (Jigsaw LLC)، المعروفة سابقاً باسم Google Ideas، كمثال بارز على كيفية استغلال التكنولوجيا من قبل الكيانات الكبرى لمواجهة بعض من أكثر التحديات تعقيداً في عالمنا، مثل مكافحة التطرف عبر الإنترنت وتوسيع نطاق الوصول إلى المعلومات. من خلال تطويرها لبرنامج "منهجية إعادة التوجيه"، تمكنت الشركة من تحويل مسار المحتويات المتطرفة نحو محتويات تعارضها عمداً، لتقديم وجهات نظر مختلفة والتأثير على الأفراد المعرضين لأفكار متطرفة. هذه المبادرة، وإن كانت مبتكرة، تطرح تساؤلات حول إمكانية استغلالها كوسيلة لاختراق الخصوصية أو التلاعب بالمعلومات.
مدير الشركة، جاريد كوهين، الذي له خلفية في العمل مع وزارة الخارجية الأمريكية وله تأثير ملحوظ في تطوير مفاهيم مثل الديمقراطية الرقمية وحرية التعبير على الإنترنت، يعكس الرؤية التي تتبناها جيغسو. كوهين يؤكد على "الانحياز للمحرومين من حرية التعبير" ويرى الإنترنت كمنصة حرة بعيدة عن تدخل الحكومات الاستبدادية والمتطرفين على حد سواء. هذه الرؤى لعبت دوراً مهماً في الاستراتيجيات الرقمية التي تبنتها الشركة، خصوصاً في أعقاب الربيع العربي، حيث استخدم الإنترنت لتوجيه الرأي العام في الشرق الأوسط.
وتمثل هذه الشركة جزءاً من مجموعة أوسع من الكيانات العالمية التي تستخدم الهندسة الاجتماعية للتأثير على المحتوى والسيطرة على الأفكار عبر الإنترنت، وهي استراتيجية تحمل تأثيرات متعددة على مجتمع المعلومات. في هذا السياق، يعد التلاعب بالمحتوى عبر الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك، في مقابل مقاومة من الأفراد في بعض الأحيان من خلال تعديل الكلمات أو الحروف لتجنب هذا النوع من الرقابة أو يمكن أن نسميه القمع والرصد الآلي، وهنا نجد هذه الكيانات التي تدعي حماية الحرية الرقمية هي من تقمعها، وهذا مثالاً بسيط على التحديات التي تواجه الحريات الرقمية والسيادة الوطنية في بعض الأماكن.
فمع تدمير التكنولوجيا الحديثة للحدود الزمنية والمكانية، تظهر وسائل الاتصال الحديثة كقوى لا تخضع لمنطق السيادة التقليدية ولا تحتاج إلى الالتزام بالقيود الكلاسيكية. تسيطر هذه التقنيات على أعضاء مجتمع المعلومات بفضل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، وهو ما يجعل التوجه نحو تطوير ودعم الشركات الناشئة من خلال الحواضن وإعادة النظر في البنية التحتية الضرورية لتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وكذلك رفع القيود على تدفق الإنترنت، أموراً ضرورية لردم الفجوة الرقمية وتحرير الأفكار من الاستهلاك الموجه للمعلومات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.