في زمن تتشابك فيه خيوط الهيمنة العالمية وتتلاقى مع أطماع الرأسمالية، تبرز الإمبراطورية الأمريكية كعملاق يرتدي رداء الاقتصاد الأقوى عالمياً، ممسكاً بزمام السيطرة على مجريات العالم بما يخدم مصالحه الوفيرة. هذا العملاق، المتنكر في صورة حامي حمى الديمقراطية والحرية، يغذي اليوم بشكل مباشر على حرب إبادة لا تهدأ، مستهدفة الفلسطينيين بمجازر تستند إلى مبررات المحافظة على الهيمنة الرأسمالية.
فمنذ بداية الحرب الهمجية التي طال أمدها، لم يتوان الاحتلال الإسرائيلي بدعم إمبراطوري من واشنطن عن استخدام كل الوسائل لتدمير كل ما هو فلسطيني، فقد قُطعت أوصال غزة، وزُرع الرعب في قلوب أهلها. في أيام الأولى للحرب، تم استهداف المستشفيات بقسوة متناهية، واقتحمت وأحرقت في بعض الأحيان، وأصبحت الكوادر الطبية هدفاً للاعتقال أو حتى الإعدام في الميدان، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية التي تحمي العاملين في المجال الطبي والمنشآت الصحية.
ومع استمرار الحرب دون تحقيق أي انتصارات للاحتلال، اتجه إلى سياسة التجويع، أشد الأسلحة قسوة في حروب العصر الحديث. فأحكم حصاره، وترك الأطفال والنساء والشيوخ الذين لم تصبهم صواريخه وطلاقته يواجهون مصيرهم بين جدران بيوتهم المدمرة و المحاصرة، حيث تتعالى صرخات الجوع في صمت مطبق يخيم على الأزقة المظلمة.
وأغلق معبر رفح، وزادت وتيرة القسوة في منع إدخال المساعدات، في حين يتابع العالم هذه الفظائع من خلف شاشات التلفاز، مستنكراً أحياناً، ومتجاهلاً في أحيان كثيرة. وهنا، يأتي السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما مصير هؤلاء الناجين من القصف لكن المحكومين بالهلاك تحت وطأة الجوع والنسيان؟
إن هذه الحرب الهمجية تبشر بعالم جديد، حيث القوانين الدولية تتلاشى أمام مصالح القوى العظمى، ويُسجل التاريخ صفحاته الأليمة بأحرف من دماء أولئك الذين تخلى عنهم العالم، متجاهلاً إنسانيتهم في سبيل الحفاظ على النظام الرأسمالي العالمي القائم على قهر الأبرياء.
وفي هذا المسار الدامي من أجل الهيمنة الأمريكية، يصبح التشويه الإعلامي سلاحاً مكملاً لجرائم الحرب. فتُسكت الأصوات المعارضة ببراعة تحت غطاء الحق والمشروعية، ويُظهر جيش الاحتلال الإسرائيلي على أنه "الأكثر أخلاقية" في محاولة مستمرة إلى اليوم لتبرير أفعاله الوحشية. هذا التناقض بين الادعاءات والأفعال يكشف الستار عن الوجه الحقيقي للسياسة الدولية التي تُعلي من شأن الاستراتيجيات على حساب الأرواح البشرية.
في قلب غزة المحاصرة، لا تدور رحى حرب كمجرد صراع على الأرض والهوية فحسب، بل أيضاً هي حرب تقودها الإمبراطورية الأمريكية، الأغنى والأقوى في العالم. تهدف هذه الحرب إلى الحفاظ على مكاسب الرأسمالية الأمريكية وسيطرتها على الممرات الملاحية الحيوية وطرق التجارة الدولية. من خلال حليفها الإستراتيجي، الاحتلال الإسرائيلي، فتعمل واشنطن على إبقاء المنطقة تحت زعامتها كقوة عسكرية متفوقة تخضع الجميع.
هذا التوحش الأمريكي-الإسرائيلي لا يُمثل فقط مجرد دعم سياسي وعسكري، بل إنه يوضح مدى إضطراب إلى الهيمنة الأمريكية وما يمكن ان تفعله في الشرق الأوسط لإبقاء نهبها للمنطقة وشعوبها. لذلك، لا تتوانى أمريكا في دعم الاحتلال، بكل الوسائل، لمحو الوجود الفلسطيني، بأحدث الأسلحة، وأساليب التجويع.
وعلى الرغم من النداءات الدولية المتكررة لحماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، يبقى الواقع في غزة ينبه الجميع، باحتمالية تشكل نظام عالمي عديم الرحمة تغيب فيه العدالة. فالقانون الدولي، الذي من المفترض أن يكون ملاذاً للضعفاء، تهاوى أمام الهيمنة الإستعمارية التي ترسمها الأيدي الأمريكية خلف ستار الدعم اللامحدود لإسرائيل. إن هذه الحرب، إجرام إمبراطوري تكشف الزيف الذي نعيشه ويفضح الأيدي التي تتلاعب بمصائر الشعوب وحقوق الإنسان.
فأمريكا إمبراطورية الوفرة والرخاء، التي تعج بالخيرات وتفيض بالثروات، تمارس هيمنتها بحرمان أهل غزة من أبسط مقومات الحياة: الغذاء. في عصر تتوفر فيه الإمكانيات التكنولوجية والموارد الاقتصادية لإطعام كل فم جائع على وجه الأرض، تختار القوة العظمى، بتواطؤ صارخ، أن تغلق الأبواب وتقطع الأمل عن ملايين الأرواح التي تتوق إلى لقمة عيش في سلام.
هذا التناقض الصادم بين الغنى المترف والقهر المدقع، بين القدرة على العطاء والإصرار على الحرمان، يعكس الوجه الحقيقي للسياسة العالمية الذي يتجاهل الإنسانية في سبيل الاستراتيجيات والمصالح الجيوسياسية. وفي ظل هذه الظروف، يصبح من الضروري أن تستيقظ الضمائر، وأن يُعاد تعريف الأخلاق في السياسة الدولية لتعكس قيماً حقيقية تحترم الحياة وكرامة الإنسان، بعيداً عن أي اعتبارات أخرى.
فليكن صوت غزة، العالقة بين جدران الحصار الظالم، نداءً يهز أركان العالم ويدعو إلى إعادة النظر في مبادئنا وقيمنا، حتى لا نبقى شهوداً على عصر يسوده الظلم وتغيب فيه الإنسانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.