في أي تعريف لمفهوم "الـمـثـقَّـف" لا يغيب عن الأذهان المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي فهو ذلك المفكّر الماركسِيّ الذي يُعدّ من المفكّرين الذين شرّحوا تلك اللفظة وأعطوها أبعاداً فكريّة واجتماعيّة، ومن مقولة غرامشي الشّهيرة: "كُلّ النّاسِ فلاسِفة" نستعين بهذا التّعميم الإنسانِيّ للحديث عن سقوط المثقّف كمصطلح مفاهيميّ، أو ما أسمّيه موتُ المثقف، لقد قسّم غرامشي المثقفين إلى قِسمين: المثقّف المحترِف التقليديّ، والمثقف العُضوِيّ، والفرقُ بينهما أنّ المثقف التقليدي مثقف شمولِيّ وفق بناءٍ معرفِيّ قائم على الشّعر، أو الأدب، أو الفنّ، لكن المثقف العُضوي هو ذلك المثقف الّذي يخرج من بُنية اجتماعيّة، أو سياق محدّد ليحدِّد وجهة نظره ويبيّنها، ويبدو أنّ المثقف العضويّ هو المنتشر في زماننا بما يسمّى "المؤثّر".
ينتقل غرامشي إلى تعميم آخر في مقولة مشهورة كذلك: "كلّ النّاس مثقّفون" محدّداً فروقاً في الربط ما بين العّصبِيّ والعَضليّ، فالصّحفي والأديب والفنان هم حالة عصبية وليست حالة عضليّة، ليظهر تساؤل آخر أين سيوضع "المؤثر" في تصنيف (عصبِيّ- عضلِيّ) إذ إنّ المؤثر والكثير منهم لا يملكون إلّا تلك الكاميرا وشيئاً بسيطاً من لا شيء.
وبين المثقِّف بصيغة اسم الفاعِل والمثقَّف بصيغة اسم المفعول، ظهر مصطلح المؤثّر، وهو مصطلح حديث قريب العهد بالنسبة للانتشار، ولكنه بعيد العهد بالنسبة للظهور، ويعني المؤثِّر ذلك الشّخص الّذي لديه قدرة على التأثير بالأخرين من خلال المحتوى الذي يقدّمه، وليتحقق لدى الإنسان لفظة "مؤثّر" يجب أن يكون لديه عدد من المتابعين لمحتواه. ولعلّ ظهور مصطلح مؤثّر ساعد في موت المثقّف كمصطلح ومفهوم.
إنّ المشكل المفاهيمي الذي ظهر في تعريف المثقّف يظهر كذلك في تعريف المؤثّر، فالمؤثر كما قلنا يرتبط بالمحتوى، وعدد المتابعين، ومدى التأثير المجتمعي، والقدرة على التغيير، فهناك أصحاب محتوى يتابعهم الملايين ولا يقدمون إلّا ابتسامة، فأين التأثير الذي يمكن أن يحدثه ذلك الشّخص!، وكلّ مهنة وكل حرفة أصبح لها مشاهدون، حتى أصحاب الأعمال البسيطة لديهم متابعون، ويقدّمون مهنتهم للناس في تصورهم العفويّ، وأصحاب الإعاقات الجسدية لهم متابعون. ومن هذا التدليل يمكن توضيح مفهوم المؤثر بدرجات المؤثَّر به القائمة على العواطف بين الفردية والجماعية ودرجات الوعي بالمفهوم.
إنّ مفهوم "المـؤثِّـر" ظَهَر مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بنمطها الحالي، وأحياناً أقول: إنّ المؤثر قد فُرض على المجتمع فرضاً وفق ما يسمّى بالخوارزميات والمتابعات العشوائيّة وظهور المواضيع الشائعة TRENDS، وكأنّه وجب عليك أن تقبله بينما لفظة المثقّف القائمة على الأدباء والفلاسفة والفنانين لا يفرضان أنفسهم، بل على العكس تماماً نجد الكثير من أصحاب الفكر الملتزم والمعرفيّ ليس لديهم متابعون مع العلم أنّه يستخدم نفس التقنية التي يستخدمها مؤثر آخر.
إنّ عملية التأثير عملية تفاعليّة لذلك عندما ربط غرامشي المثقف بالواقِع الاجتماعيّ وحده فقد كان محقاً. من أجل ذلك وَجبَ فصل التسميات عن الموروث الفكريّ الكلاسيكِيّ وربطها بالموروث الحداثيّ لأن الوقائع هي التي فرضت ذلك التكوين؛ أي أن المثقّف يظل ذلك الإنسان المتعالِق مع التفاعلات العصبيّة والذي يرى الواقع الكلّي برؤيته، ويقدّم قراءته ولا يُعنَى بالتغيير المجتمعيّ، أو الاجتماعيّ سواء أكان أديباً، أم فناناً، أم فيلسوفاً. لتأتي لفظة "المؤثر" أكثر عمقاً وتفاعلاً وشموليّة، وتصلح أن تكون لجميع الفئات من الرياضيين حتى عارضي الأزياء فأصحاب المهن والطّبخ، وغيرهم.
إنّ فكرة موت المثقف كمفهوم لم تكن حديثة الولادة، فالمثقف نال قدراً من القداسة السياسيّة وقيّدَ نفسه بمفهوم السّلطة، أو أنّ السّلطة استطاعت تقييده، لتظهر المقولة المشهورة: "المثقف كلب حراسة"، وهذه المقولة على اختصارها الفكريّ لكنها تحمل كل آثار المثقف الخائن الذي خان الحالة المجتمعيّة لينساق وراء ما تقدمه السّلطة من امتيازات له، وهذا الحدث قد يكون اعتياديّاً خصوصاً في بعض الحالات العربيّة التي أظهرت العديد من السّقوط وراء السلطة، وأسبابها كثيرة أهمّها الأسباب المادية، والانسياق وراء المال، أو الانسياق وراء مفهوم أيديولوجي ردئ.
لا يعني ما سبق أنّ المؤثّر لا يخاف من السّلطة، أو لا يسعى لها، بل على العكس تماماً، دأبت بعض الأنظمة الشموليّة، وغير الشمولية خصوصًا في منتطقتنا تقديم امتيازاتٍ لهؤلاء المؤثرين، وقد كان لهم ذلك من خلال الوقوف مع السلطة في مواقفها الداخلية والخارجيّة، وفي مثل هذه الحالة يمثل هؤلاء المآثرة إن صحّ الجمع ما يسمّى "الشعبويّة الجاهزة" فالحالة اللحظية التي جعلتهم هكذا تسمى اللحظة الزئبقية، ومن السهولة للسلطة أن تتحكم بهم، كذلك ضحالة المحتوى المقدّم يساعد على السقوط السريع.
إنّ سهولةَ الوصول إلى المعرفة اختزلت فكرة المثقف وجعلتها تغيب غياباً تامّاً، لكن ربما الصّراع بين المرئي والمقروء هو الذي يحدد قوّة التأثير؛ فعبر التاريخ شكّلت الخطابة عنصر قوّة في إبراز الرأي والتأثير بالآخرين، فالخطيب المفوه في جميع المناسبات كان أداة لإبداء الرأي ذي الحجة القوية. والآن تشكّل الخطابة جزءاً هاماً في التأثير المعرفي الفكري لمتلقي مواقع التواصل الاجتماعيّ بشكل تام. ولو ابتعدنا لتحدّثنا عن فصاحة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا والذي حاز جائزة نوبل للآداب لفصاحته وقدراته الخطابيّة، ولو اقتربنا لتحدّثنا عن تأثير الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، فلباسه وحديثة، حتى حركة الرأس صار يتأثر بها العديد من هم في سنّ صغيرة.
إنّ الإنسان الواعي هو القادر على إسقاط كليهما أي المثقف والمؤثر؛ إذ وجب أن يضع في اعتباره أنّ العقل الإنسانيّ الباحث عن الحق عقل لا تغريه التفاهة، ولا تعتليه سفاهة المقدَّم له، إنّ الإنسان الواعي هو الذي يعرف ما يشاهِد، وما يؤثِّر، وما يؤثَّر به، وإذا أيقن ماذا يعمل أسقط الوهم بالوهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.