يعد نعوم تشومسكي، الفيلسوف اللغوي والمفكر السياسي الأمريكي، واحداً من أبرز الأصوات النقدية في العالم المعاصر. إذ تتسم كتاباته ومحاضراته بجرأة استثنائية في مواجهة الظلم والكشف عن الأوجه الخفية للهيمنة الإمبريالية والرأسمالية العالمية. تشومسكي، الذي ارتبط اسمه بنقد السياسات الأمريكية الخارجية ودعمه المستمر لقضايا الشعوب المضطهدة، يُولي اهتماماً خاصاً بالقضية الفلسطينية، معتبراً إياها نموذجاً صارخاً للنضال من أجل العدالة في مواجهة قوى الاستعمار الحديث.
إذ يرى تشومسكي أن القضية الفلسطينية تقع محورياً في الصراع ضد الاستعمار الحديث. فالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ليس مجرد صراع إقليمي أو ديني، بل هو تجسيد للهيمنة الاستعمارية التي تسعى للسيطرة على الموارد والأراضي وقمع إرادة الشعوب. في هذا السياق، تعتبر فلسطين رمزاً للنضال العالمي ضد الاستعمار بجميع أشكاله. لذلك، نجد تشومسكي يشير دائماً بلا كلل، على أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ليس إلا جزءاً من استراتيجية أوسع للحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي، فتشومسكي، من خلال تحليلاته، يدعو العالم للنظر إلى القضية الفلسطينية ليس فقط كنزاع جغرافي أو سياسي، بل كمعضلة أخلاقية تتطلب العدالة وإعادة النظر في الروايات التاريخية والدعم الدولي الذي سهّل واستمر في تسهيل عمليات التهجير والتطهير العرقي للفلسطينيين.
فبالنسبة لتشومسكي، فإن العدالة في فلسطين ليست مسألة خاصة بالفلسطينيين فقط، بل هي قضية إنسانية عالمية تتعلق بالكرامة والحرية الإنسانية لكل البشر، إذ يعتبر تشومسكي أن النضال الفلسطيني هو جزء من حركة عالمية أكبر تهدف إلى مقاومة الظلم والاستغلال، من الولايات المتحدة والدول الغربية، والذي يتجسد في الدعم اللامحدود لإسرائيل ضد الفلسطينيين، ما يجعل من الضروري تسليط الضوء على هذا الدعم ومساءلته بشكل مستمر.
لذلك، يقف تشومسكي في مواجهة النظريات ما بعد الكولونيالية التي ترفض فكرة الحقيقة الموضوعية وتعتبر الكولونيالية مجرد ماضٍ يكتفي العالم بنقده فقط. فعلى العكس من ذلك، يرى تشومسكي أن الكولونيالية هي واقع مستمر يتجلى في أوضح صوره في الاحتلال الاستعماري لفلسطين. هذا الاستعمار الحديث يتخذ أشكالاً متعددة، إذ لا يقف على السيطرة العسكرية، بل يتخطى، بل يتواجد في كل أشكاله الاقتصادية والثقافية بشكل مباشر وغير مباشر، ما يستدعي أشكالاً جديدة من التفكير والنضال لمقاومته.
إذ يرى أن الإمبراطورية العالمية تجدد أشكال الاستغلال والسيطرة بشكل مستمر، ما يجعل المقاومة أكثر تعقيداً وتنوعاً. الهيمنة الاقتصادية والسياسية للإمبريالية الجديدة تتطلب منا تطوير استراتيجيات مبتكرة لمواجهتها. في هذا السياق، يعتبر تشومسكي أن الوعي بالواقع الموضوعي والحقائق التاريخية هو الخطوة الأولى نحو مقاومة فعالة.
في مواجهة النظريات ما بعد الحداثة التي تنكر وجود واقع موضوعي، يؤكد تشومسكي أن البحث عن الحقيقة الموضوعية والإفصاح عنها هو مهمة أساسية للمثقف. هذا البحث ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو ضرورة لمواجهة الظلم والاستبداد. بالنسبة لتشومسكي، الحقيقة الموضوعية هي الأساس الذي يمكن من خلاله بناء نضال فعال ضد الهيمنة والاستغلال.
لذلك، يرى تشومسكي أن المثقفين يجب أن يكونوا صوت الحق في مواجهة الظلم، كون أن دورهم يتطلب منهم مواجهة الحقائق المؤلمة وعدم التنازل أمام الضغوط السياسية أو الاقتصادية. من خلال كشف الحقائق وتحدي الأوضاع القائمة، فقد استحضر تشومسكي ذكرى صديقه وزميله إدوارد سعيد، الذي اعتبره نموذجاً للمثقف الملتزم بقضايا العدالة والحق. وقد عبر تشومسكي عن خسارة سعيد بكلمات مؤثرة: إذ رأى أن خسارة سعيد كمثقف، خسارة فادحة لكل الفلسطينيين، لأن سعيد كان الأكثر فصاحة ومعرفة وبصيرة، والناطق الأكثر عمقاً باسم الفلسطينيين. لقد حافظ على إبقاء القضية حية لسنوات طويلة وأبقاها في مسارها الصحيح الذي بدا منطقياً للمطالبة بالحرية الفلسطينية والتحرر الكامل وتحقيق الحد الأدنى من العدالة.
بالفعل، كان الفيلسوف والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، كان بحق مثقفاً عضوياً، يشتبك بما يملك من أجل العدالة، وقد ظل كذلك حتى الرمق الأخير من حياته، و لم يكن سعيد يدافع عن الفلسطينيين فحسب، بل كان يعيش ويتنفس مبادئ العدالة والحرية التي تعد جوهرية للإنسانية جمعاء. وفي رحيله، خسر العالم ليس فقط مدافعاً شرساً عن الفلسطينيين، بل خسر أيضاً صوتاً كان درعاً للمظلومين في كل مكان.
وظل نعوم تشومسكي مستلهماً من نضال سعيد، يدعو إلى مواجهة أشكال الاستعمار الحديثة بكل حزم وتصميم، مشدداً على أن التمسك بالعدالة والحقيقة هو الطريق الأمثل لبناء عالم أكثر إنصافاً وحرية. فمن خلال مواقفه وأفكاره، ندرك الحاجة الماسة إلى استمرار النضال مستلهمين من تفانيهم في دعم قضايا العدل، كالقضية الفلسطينية وغيرها من النضالات ضد الظلم والقهر.
لذلك، أرى أنه من خلال فهم علاقة تشومسكي بالقضية الفلسطينية يمكننا أن نفهم ديناميكية الظلم في العالم، ونستلهم الشجاعة لمواصلة مسيرته هو وإدوارد سعيد في الدفاع عن العدالة والحرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.