في خضم الحياة العصرية، تتزايد أعداد الأفراد الذين يجدون أنفسهم بعيدين عن أوطانهم وأحبائهم، يعيشون في غربة تمتد آثارها إلى أعمق زوايا الروح، هؤلاء الأفراد، ممن تفصلهم مسافات جغرافية وروحية عن جذورهم، يجدون أنفسهم غارقين في بحر من الغربة، حيث تتمزق أشرعة القلب بين الحنين والوجود. يكون العيد، ذاك الزمان المبارك، حينها مرآة تعكس عمق هذه الفجوة العاطفية، حيث يزداد الحنين إلى الوطن والعائلة بأشد صوره.
في ثنايا كتابه العميق "فن الحب"، يرسم الفيلسوف الألماني إريك فروم لوحة فلسفية تشرح الحب كقوة جذرية تنسج الروابط بين البشر وبينهم وبين العالم الذي يعمرونه. لا يرى فروم الحب محصوراً في إطار المشاعر الرومانسية أو العاطفية الزائلة فحسب، بل كموقف وجودي وسلوك إنساني يفتح آفاق التواصل والترابط بين الأفراد. هذا الترابط هو السرّ الذي يملأ الحياة بالمعاني، ويعزز شعور الفرد بالانتماء والأمان.
وتأتي الأعياد لتصبح بؤرة تلك الأحاسيس، لحظات تنير فيها مشاعل الحب والتآلف العائلي. إنها ليست مجرد تجمعات تقليدية تمر بها الأيام، بل مناسبات تفيض بالمعاني، تجمع الأحبة في محفل معبأ بالود والمحبة. وعندما يُحرم الإنسان من هذه الأجواء، يجد نفسه مبتوراً من جزء عزيز على نفسه، محاطاً بظلال الغربة والانعزال التي تضغط على الروح، تاركةً إياه في متاهة من الحنين والأسى.
أن تحتفل بالعيد بعيداً عن ربوع الوطن ودفء الأهل يشكل تجربة وجودية محفوفة بالتحديات النفسية والعاطفية، تلك التحديات التي تنخر أعماق الروح وتعيد صياغة مفهوم الوجود الإنساني. في هذه اللحظات، يتجلّى شوق المغترب بعمق نحو حنان العائلة والتفاصيل الصغيرة التي تخلق الألفة، كالأحاديث العفوية التي تدور على موائد الطعام، والأطباق التقليدية التي تنقل الإحساس بالانتماء، والضحكات التي تملأ أرجاء المنزل بالبهجة والحياة.
يحول العيد في الغربة إلى ساحة للانفصال المؤلم، حيث يُخلف البعد الجغرافي فراغات روحية عميقة تفرض على الفرد أن يواجهها وحيداً. هذه الفراغات ليست مادية فحسب، بل هي أيضاً فراغات معنوية ونفسية تهدد الاستقرار العاطفي وتهز أسس الهوية الشخصية. بتأملات فروم، ندرك أن في غياب الحب، أو نقصانه، يصبح الفرد مُنفصلاً ليس فقط عن محيطه، بل وعن جوهر ذاته وكيانه، مما يعمق جراح الغربة ويتركه يصارع لإعادة تواصله المفقود مع الذات والآخرين.
وأعتقد في عصرنا، أصبح قضاء العيد في الوطن ضرورة حياتية، ففي هذا الزمان الذي نعيش فيه، حيث يبدو أن الفخامة والبذخ قد صارا معيارين للسعادة، تظل الأعياد بالنسبة لي قصة قديمة تتسم بالعمق والأصالة. فكما يذكرنا إريك فروم في كتابه، بأن الحب هو أساس العلاقات الإنسانية؛ إنه الدرس الأول الذي نتعلمه في حضن العائلة، حيث نكتشف المعنى الأولي للعطاء والتضحية. هذا التفاعل البشري الأول الذي يوفر لنا يعرفنا على ما هو العاطفي والروحي، وهو نفسه الذي يمنحنا أولى لمسات الشعور بالذات.
العيد، للحظات نادرة من الألفة، حيث يتخطى الحضور الجسدي ليصل إلى الروح، وهو ما يجعل العيد مناسبة فريدة ومميزة.
لكن، وكباقي كل شئ في الحياة لم تتركه الحداثة على حاله، فنجد تلك النزعة الاستهلاكية التي بدأت تخيّم على طقوس العيد. السفر إلى المدن الكبرى، الإقامة في الفنادق الفاخرة، والتسوق في مراكز التسوق الفاخرة، والرحلات الفارهة على الشواطئ الساحرة، قد تبدو جذابة، لكنها في الحقيقة تشكل انحرافاً عن جوهر العيد الحقيقي. هذه المظاهر، أرى أنها تمزق أواصر الحب الحقيقي، هي مجرد سطحية تعكس تحولات حضارتنا الحديثة ولكنها لا تعبر عن ثقافتنا الإنسانية الأصيلة. فكما أشار عزت بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، الثقافة الحقيقية هي التي تعكس نضج الإنسانية وتفاعلاتها العاطفية، وليست الحضارة التي تركز فقط على الشكل الخارجي للحياة.
ومع أن الغربة غالباً ما تعني البعد الجغرافي عن الوطن، فإن هناك صوراً أخرى للغربة تُعاش داخل الأوطان نفسها، كما هو الحال بالنسبة للعائلات الفلسطينية في غزة. رغم أن هذه العائلات تقيم في وطنها، إلا أنها تعيش غربة داخلية مؤلمة بسبب حرب الإبادة المستمرة منذ ٩ شهور والخسارات المتكررة لأفراد العائلة.
في غزة، حيث الزمان يُمسك بتلابيب الحكايات الأليمة، تعيش عائلات تجرّعت مرارة الغربة داخل حدود وطنها. هنا، ليس الفراق بمعناه التقليدي الذي يفصل بين الأحبة بالمسافات، بل هو فراق يمزق الروح، ففي كل ركن من أركان هذه المدينة، يختبئ وجع عائلة فقدت جزءاً من قلبها. فربما لا تعد تلك الأسر التي لم تعد تعرف كم فرداً فقدت إلى الآن، فقد تلاشى وجود أحبائها، بين من ابتلعتهم مخالب الموت ومن غيبتهم ظلمات الاعتقال.
مع استمرار الحرب الهمجية التي يشنها الاحتلال منذ ٩ أشهر، تحولت غزة إلى مسرح مأساوي يعج بالموت لكل أشكال الحياة؛ إذ لم يعد السكان يميزون ملامح مدينتهم، ولم تعد الشوارع تحكي سوى قصص الدمار. كل شيء أصبح موغلاً في الغموض؛ شرق المدينة وغربها لم يعودا يُعرفان إلا بمعالم بسيطة قد تبقت، أو عبر النظر إلى البحر، الذي بات الشاهد الوحيد على هوية المكان والناس.
ربما أشعر بالغربة في العيد كوني بعيداً عن الوطن، لكن في غزة يكتسي العيد بلون الوحشة القاتم. يعيش الفلسطينيين في أرضهم غربة تتجاوز كل الحدود، غربة تعانق السماء في صمتها وتبكي في جوف الليل مواويل الحنين. إنها غربة لا تفتقد فيها الأرواح أجساداً حبيبة فحسب، بل تفتقد الذات ومعنى الحياة، فحتى صورة المدينة التي كانت يوماً مرسماً للحياة والذكريات.
عندما أفكر في العيد كيف يمر في غزة، لا أجده إلا تذكيراً بما فُقد، وبكل جرح نازف تركته الحروب على جدران القلوب والبيوت هناك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.