في قلب الشرق الأوسط، يتجلى الاحتلال الإسرائيلي كنموذج معاصر مشابه لنظام الإقطاعي الذي كان سائداً في العصور الوسطى في أوروبا. إذ يعكس تفاعلات القوى الدولية والعلاقات الجيوسياسية المعقدة، حيث تلعب الحماية والولاء دورًا جوهريًا في تشكيل المشهد السياسي. لفهم هذا النموذج وتقريبه بشكل مفهوم، يتطلب الأمر النظر لبداية الاحتلال ونشأته وعلاقاته مع القوى الغربية، بالإضافة إلى تحول دوره في النظام الدولي. وهنا، يبرز وعد بلفور كعلامة فارقة في تاريخ المنطقة، حيث مثّل نقطة البداية لتحولات سياسية وجغرافية غيّرت وجه الشرق الأوسط.
الإقطاعية، التي تُعرف كنظام اقتصادي واجتماعي ساد خلال العصور الوسطى في أوروبا، قامت على أساس العلاقات الهرمية بين الأرستقراطيين الذين كانوا يملكون الأراضي والفلاحين الذين عملوا عليها. كان اللوردات يمنحون الأرض للفرسان والفلاحين مقابل الولاء والخدمات العسكرية أو الزراعية. تميز هذا النظام بالتبعية المتبادلة حيث يُزوّد السيد أتباعه بالأرض والحماية، وفي المقابل، يوفرون الدعم والخدمات له. يشبه هذا النظام إلى حد بعيد العلاقات التي نشأت بين الاحتلال الإسرائيلي والقوى الغربية، حيث يمكن اعتبار وعد بلفور بمثابة في فلسطين من قبل الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية كبداية لهذا الشكل الإقطاعي في النظام الدولي. واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على هذا الإعلان، لا يزال الاحتلال يحظى بدعم وحماية القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبره حليفًا استراتيجيًا في المنطقة الاستراتيجية للإمبراطورية الأمريكية.
إن تحليل العلاقات بين الاحتلال والقوى الكبرى من خلال عدسة تاريخية وجيوسياسية يكشف عن وجود تشابه مثير للاهتمام بين الأنظمة الإقطاعية التقليدية والواقع الراهن في الشرق الأوسط. هذه المقارنة ربما تسهم في تعميق الفهم للديناميكيات التي تشكل السياسة الدولية المعاصرة، وتُبرز أيضًا الدور الاستراتيجي الذي يلعبه الاحتلال في تعزيز مصالح الدول الغربية بالمنطقة. وأعتقد لاستيعاب هذا النموذج بدقة، يجب التركيز على محورين أساسيين: أولاً، العوامل التأسيسية للاحتلال الإسرائيلي وطبيعة علاقتها بالقوى الغربية؛ وثانيًا، التطور التدريجي لدور ذلك الاحتلال ضمن النظام العالمي.
في عام 1917، صاغت بريطانيا العظمى وثيقة تاريخية تعرف بـ"وعد بلفور"، أعلنت من خلالها دعمها لإنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين. هذا الإعلان يتشابه بشكل لافت مع منطق وأسلوب النظام الإقطاعي الذي يُقدم فيه السيد قطعة أرض قد استولى عليها، إلى مجموعة معينة، مقابل الولاء وخدمة مصالحه، وبما أن الامبراطورية البريطانية آنذاك، كانت هي المهيمنة على العالم، فكانت تتعامل مع أراضي العالم بمنطق السيد. ومنذ ذلك الوعد وخلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1920-1948)، عملت بريطانيا على تسهيل هجرة اليهود وتوطينهم وتسليحهم، مما شكّل الأساس لتأسيس الاحتلال الراعي للمصالح، إذ جزء كبير من هذا الدعم كان يهدف إلى ترسيخ حليف قوي في منطقة ذات أهمية استراتيجية وغنية بالموارد الطبيعية، لتعزيز نفوذ الامبراطورية في الشرق الأوسط.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق الحرب الباردة، تحولت مسؤولية حماية واستمرار دعم الاحتلال من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في انعكاس واضح للتحالفات الجيوسياسية المتغيرة. حيث يقدم الملك (الولايات المتحدة) الحماية للسيد الإقطاعي (إسرائيل) مقابل ضمان مصالحه، فوفرت الولايات المتحدة لإسرائيل دعمًا سياسيًا، عسكريًا، واقتصاديًا قويًا، مكنها من أن تصبح قوة إقليمية تحافظ على مصالح الغرب في المنطقة. هذا التحالف الاستراتيجي منذ حينها يعمل بذلك المنطق الإقطاعي كضمان للولايات المتحدة لتحقيق قاعدة متقدمة تعزز من قدرتها على حماية مصالحها في الشرق الأوسط والتصدي للتحديات الإقليمية بفعالية.
وأعتقد، أنه يمكن رؤية الاحتلال الإسرائيلي كنوع من الإقطاعية التي قدمها الغرب لضمان مصالحه في الشرق الأوسط. فزرع الاحتلال في المنطقة كان يهدف إلى تأسيس قاعدة حليفة وقوية في نقطة استراتيجية بالغة الأهمية عالميًا. فبالنظر لعلاقة الاحتلال بالقوى الغربية، سنلاحظ بسهولة العلاقة الطردية للاستفادة بين الطرفين، إذ يعزز الدعم الغربي المستمر للاحتلال الإسرائيلي من قوته الإقليمية، مما يسهم في تحقيق واقع سياسي واقتصادي يخدم المصالح الغربية سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو استراتيجية، مما يضمن الهيمنة الغربية. بالإضافة لذلك، لا يمكن أن نغفل أن تلك العلاقة الاقطاعية بين الاحتلال والقوى الغربية، أحد أهدافها الأساسية كان لتجنب المواجهة الدينية المباشرة مع العالم الإسلامي،
من ذلك المنظور أرى الاحتلال الإسرائيلي بمثابة امتداد للحروب الصليبية أيضاً، حيث يتم نزع الأراضي المقدسة من العرب المسلمين، وتحويل مسار الصراع من مواجهة مسيحية-إسلامية إلى نزاع عربي/إسلامي-يهودي. من خلال هذا التحول، يكون الغرب قد حقق هدفين رئيسيين: الأول، نزع الأراضي المقدسة من المسلمين. والثاني، تحويل مسار الصراع الديني إلى مواجهة مع عدو مصطنع، مما يسهل على الغرب إدارة نفوذه وسيطرته في المنطقة، وهذا التوجه أخذ بُعداً واضحاً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تعززت مكانة الغرب في الشرق الأوسط.
إن النظر لعلاقة الاحتلال والقوى الغربية من خلال عدسة النظام الإقطاعي، حيث تتبادل الحماية والولاء لضمان النفوذ والسيطرة. يساعد في فهم ديناميكيات الاحتلال الجيوسياسية في النظام الدولي. فمن خلال هذا التشبيه، نستطيع تفسير تلك العنجهية والبلطجة الاستعمارية لإسرائيل في النظام الدولي واستمرار رعاية الدول الغربية لها رغم الخسائر السياسية والاقتصادية التي تتكبدها اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.