أشواق الروح في البيت العتيق (2)

عربي بوست
تم النشر: 2024/06/15 الساعة 08:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/06/15 الساعة 08:58 بتوقيت غرينتش
الحجاج يطوفون في الكعبة "ارشيفية" - رويترز

عندما نتأمل طبيعة خلق الإنسان وحياته، وما يؤثِّر به ويحرِّك مشاعره، عندما ننظر إلى ما يبني شخصيته ويساهم في توجيه سلوكه وأفعاله، عندما نتنشَّق روعة عبق النبوة في رحاب القرآن، حيث يجتمع لنا في حالٍ واحدة الزمان والمكان، عندما يكرمك الله بأن تعيش في كنف الرسول وظلال الكعبة والحرم والمناسك، يطوى لك الزمان ويختصر في حاضرك التاريخ، وتعيش حقيقة حلم النموذج الكامل، وترتقي منك الروح وتسمو إلى صفاء الملائكة في السماء. يحدث هذا ويعيشه من زار مكَّة واطَّوف بالبيت العتيق في أيِّ وقت من أوقات العام، أما عندما يكون كلُّ ذلك في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار رمضان، فالأثر الساحر يتجاوز حدود المعروف إلى آفاق ربانية تتسامى رقة ونقاءً وطهراً وصفاءً. فلا شيء يعادل لذة المناجاة أكثر من متعة القرب، ولا شيء يوازي روعة الصلاة أمام الكعبة إلا حلاوة استشعار مخاطبة الإله بحضرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في لحظة تجلٍّ تنعتق فيها الروح عن شوائب الجسد، ويسمو بها المرء عن رغائب الأرض يلامس الطهر متجسداً في ضيافة الرحمن.

ما زلت مشدوهاً من طواف المعتمرين في أول شهر رمضان في ذلك النسق الكامل، الذي جعل جموع الملايين تتحرك وسط بقعة ضيقة من الأرض في هدوء وتناغم وتناسق، لا شيء يعكِّر صفو عبادتهم ولذة مناجاتهم، كلٌّ بلغته يناجي حبيبه، وكلٌّ على طريقته يمارس عبادته. هذا شيخ بلَّلت دموع الخشية لحيته، وذاك رجل أفريقي يحمل ابنه على كتفيه يطوف به، وهنا شاب يحمل مروحة يخفف بها من جذوة حرِّ الشمس عن وجه أمِّه، وكلُّ واحد من المتعلِّقين بأستار الكعبة بين الرُّكن اليماني والرُّكن الشامي يظنُّ أنَّه وحده في مقابلة الإله، فما أعظم العبادة وأسعد المتعبدين!

هنا في الحرم الكثير من المشاهد التي تعمر المكان لتغمر القلب بالأمان، فما بين جنة الصلاة وفردوس الطواف أحداث وأحداث، كلُّها تتَّسم بطاعة الله وعبادته، وطلب أجره ومغفرته، وهكذا تتحوَّل تفاصيل الحياة اليومية إلى قُربات ينال بها المرء رضى مولاه، حتى تَحلُّق هؤلاء الصبية الخمسة حول "كومة" من الأرز وضعت في كيس ورقيٍّ تحته كيس من "النايلون" مع أمهم وأبيهم، وكانوا على ما يظهر من فقرهم يبدون سعداء، وسط تساؤلي: ما الذي جاء بهم من القارة الأفريقية إلى هذا الوادي البعيد؟ 

تختلف الطبائع والعادات، وتتنوَّع المشارب والقيم، لكن الإسلام هذَّب طباع الجميع، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، بل تفانٍ وتعاون، وصدق إخاء وتكامل. التقيته عند صناديق الأمانات يحاول أن يضع في الصندوق أمانته، لكنه اكتشف أنه لا يملك إلا الدراهم الإماراتية التي لم يقبلها الموظف المسؤول، ولم يطل النقاش بينهما، فقد وجد الرجل من يدفع عنه دون سابق معرفة أو انتظار استرجاع المبلغ، لقد انعكست روح التفاني لتصبح سمة عامة، فإشارات المرور في كلِّ بلاد العالم لها وظيفة واحدة إلا هنا في المملكة في رمضان، حيث يتحول اللون الأحمر عند إشارات المرور إلى وقت مناسب لتوزيع وجبات الطعام السريع والتمر واللبن والماء ساعة الإفطار على الصائمين.

هكذا يتحول البيت وما حوله إلى حرم آمن، لا يخاف فيه امرؤ ولا يجوع، بل لا يشقى فيه مسلم ولا يضنى، فلا شيء هنا إلا لين الحياة وأمنها، والشعور بالغنى والإحساس بكمال السعادة والرفاه والسنى، وهكذا يصنع الإسلام قومي: طهر نقاء، وصفاء تعامل، وكمال تفانٍ، وتواضع وتسامح وعطاء.

أنهيت طوافي، كان الزحام شديداً فلم أستطع أن أصلي الركعتين خلف مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، وقصدت الصفا، لكنَّ سيل الزحام جرفني إلى المروة، صليت ركعتي السنة وسط طوفان المعتمرين، لأعود أدراجي مع الساعين، واستمرَّ سعيي حتى انتهى مع صلاة التراويح، وخرجت إلى الباب الخارجي أحضر أغراضي من صندوق الأمانات، وأردت أن ألقي نظرة وداع على البيت، لكنَّ الأبواب أوصدت من شدَّة الزحام في وجوه الداخلين، ولم يكن يسمح إلا بخروج المصلين.. 

انتظرت قرابة الساعة والحشود يتوالى خروجها من الأبواب المشرعة، وأخيراً سمحوا لنا بالدخول، فدخلت، ورأيت الكعبة المقدسة سامقة بشموخها، واللوحة الكونية الفريدة تتجلى بأبهى حللها. لم تُنْقِص الملايين التي خرجت من الأبواب عدد الطائفين، والناس حول البيت كما الكواكب في فلك الشمس، رابط الكواكب بالشمس مغناطيسيٌّ جاذب، ورابط الطائفين بالبيت إيماني آسـر، والدموع تتساقط مدرارة لتجسيد النموذج الكامل، فهنا تتحقّق الوحدة والمساواة، وهنا يتجلى وجهٌ من عظمة الله ويتجسَّد التوحيد والتجرُّد وعبادة الإله، وهنا مدرسة القوة واللين، والعزة والتواضع، والإخاء والتعاون..

أردت أن يكون آخر عهدي بالبيت الصلاة، فصليت ركعتين، لم أنظر فيهما إلى موضع السجود كما هي السُّــنَّة، فقد استحوذت اللوحة الكونية بحركتها الهادئة على نظري وفكري وأنا أصلي أجمل ركعتين في حياتي، لم أعرف فيهما ما أقرأ، لكني وجدت نفسي أقرأ بـ"قل يا أيها الكافرون" و"قل هو الله أحد"، رمزيْ الولاء والبراء في القرآن، ولعمري هي رسالة الله للناس، وخلاصة دعوات الرسل، ووظيفة الكعبة على الأرض، فهل نعي الدور والواجب، أم نظلُّ في التيه وعندنا خارطة الطريق؟!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سامي الخطيب
كاتب وباحث مهتم بالشأن التركي والدراسات السياسية والإدارية
كاتب وباحث مهتم بالشأن التركي والدراسات السياسية والإدارية
تحميل المزيد