من أسوأ ما جلبت علينا الحداثة أن الرجل لا يكاد يفقه إلا صنعة واحدة ويفتخر بهذا، وليس لنا في الغرب أسوة بل في أشرف الخلق وأصحابه.
فقد كانت العرب تنشئ الصبيان على الرعي وسياسة الحيوان والحلب والدر والضرب في الأرض، ثم تنشئ الفتيان على خدمة المنزل وجمع الحطب وطحن الحبوب وجمع التمور والتقوّت والتخييم وكل مهارات النجاة الفردية التي تثقل الإنسان بضروريات التعامل مع البيئات القاسية فيغدو الفتى منهم خشناً مستقيم الظهر قوي الأكتاف.
ثم تنشئ الشُّبان على الفروسية وفنون القـتال والمصارعة والعدو والكر والفر والرماية وما يتبارز فيه الآخرون من حمية أو من فخر.
ثم يكبر الجيل بين الأسواق، يتعلم البيع والشراء، يُحسن التبضّع ولا ينفق درهمه ولا ديناره إلا فيما ينفعه.
من كان غنياً منهم يسافر في القوافل إلى الشام أو اليمن، فيتعلم عن الغساسنة شمالاً أو الحميرية جنوباً، يعي ما يدور حوله وما يصنعه غيره من الناس باختلاف أخلاقهم وخلقتهم.
وبمرور المواقف والشدائد والسراء والضراء، يتعلّم كيف يطبّب نفسه، وكيف يبني بيته، وكيف يحفر بئره وكيف يزرع نخله.
يمشي ليلاً ويهتدي بالنجوم، ويمشي نهاراً ولا يحترق تحت الشمس.
يُحسن كل فرد في القبيلة تحضير طعامه وشرابه وإصلاح هندامه ونعاله ويأكل مما يعجن ويشبع مما ينحر، ولا تفوته إلا بضع حِرف، فقد ينأى منهم عن تعلّم الحدادة والسباكة، أو يؤسس أحدهم الدباغة ليتعلم جيدها ولا يشتغل بها.
يعلم كيف تضع الحبلى ولكن لا يتطوع في ما تحسنه النساء أكثر، ولو كان العرب على الساحل لأبحروا واصطادوا ولو كانوا على الجبال لنحتوا وشكّلوا ولو كانوا على وادٍ خصيبٍ لزرعوا وحصدوا.. هؤلاء هم العرب.
ولا أُحسن الكلام عن بلاغتهم ولغتهم وفصاحتهم، ولا أجد نقصاً في مكارم أخلاقهم، إنما كان الشريف فيهم عَلماً وإن كان فقيراً، والخسيس فيهم نكراً ولو كان ثرياً.
أما اليوم فتسأل الرجل في عصرنا ماذا تتقن من مهارات وحرف في هذه الحياة، فيجيبك: "أنا بعرف اشتغل شغلتي"!
طيب هل تعلمت كيف تطبخ وتنظف مكانك؟ هل تعلمت كيف تضحي وتـنحر خروفاً أو أضحية صغيرة؟ هل تعرف كيفية إعطاء إبرة لشخص مريض؟ هل تفهم في البيع والشراء؟ هل تعلمت قيادة الدراجات النارية على الأقل؟ هل تستطيع السباحة؟ هل تعلمت كيفية تصليح ما يُكسر في البيوت أو حتى دق الحائط بالمسمار؟ هل تعلمت أي حرفة ولو على قدر الأمور الأساسية؟
هل لديك لياقة بدنية تسمح لك لك بالركض؟ هل تستطيع حمل أشياء ثقيلة؟ هل لديك القدرة الجسدية للدفاع عن نفسك أو عن أحد أقاربك؟!
ماذا تعرف عن الإسعافات الأولية؟ عن العدوى؟ أو عن الدورة الشهرية للنساء يسيرها وعسيرها، هل تملك ثقافة أو معرفة عامة عن الجنس مثلاً؟ عن ديانات غير المسلمين وعقائدهم؟ عن عادات الناس وأصل التسميات والأمثال والحكم، والكثير من المهارات الأخرى التي تركها الناس أنفة أو كسلاً أو حتى رفاهية زائدة.
هناك مثل يردده الناس كثيراً وهو "ادي العيش لخبازه"، ومع احترامي لفكرة التخصص العلمي والأكاديمي لكن الخبّاز لا يحتاج إلى تعلم الخبز فقط، وإلا سيكون فاشلاً ومغفلاً، إنما يجب أن تكون لديه المهارات اللازمة للتعامل مع النار وكيفية التصرف في حالة تعرضه للسع أو الحرق.
الخباز عليه أن يتعلم كيفية حمل الأوزان الثقيلة على ظهره حتى يتمكن من حمل الدقيق والنزول والطلوع به، الخباز يجب أن يتقن التجارة والبيع والشراء، عليه معرفة كيف يوظف الناس كلٌ في مكانه الصحيح، من يعجن ومن يخبز..
أتحدث أحياناً مع بعض الشباب وأجده يفتخر أنه قضى عمره في الطب فقط ولا يفقه شيئاً في غيره، أو يعرف عن الهندسة فقط وكل تفكيره جمع وطرح بلا أي اعتبارات أخرى.
وبهذا الشكل أصبح لدينا مجتمع أكتع وكسيح لا ينتفع بأطرافه كلها، إنما حُبب إليه أن يجيد تحريك إبهامه ليقطع ما زاد عنه، فلا يسعى لأي مهارة حياتية ولا ضرورات النجاة ولا تعلم دفاعاً علمياً ورياضياً عن النفس، ولا يفهم شيئاً عن النساء نفساً وعضواً، ولا يأكل من صنع يديه ولا يصنع أو ينتج أو يحاور ويجادل ويناظر، أراده العم سام قابعاً في بيته يتمتع بدولة الرفاه التي تقدّم خدماتها الجليلة لرعاياها.
وأراده حكامه أعزل لا يحمي نفسه ولا يحمي غيره مثله كمثل النساء لا يجيد الحروب ولا القتال، وأراده بنو صهيون أبله، لا يكاد يفارق هاتفه الآيفون ولا يستطيع العيش بدون مكيّف ولا يفقه شيئاً في دينه ولا في دين غيره، لا يقرأ، ولا يحفظ ولا يُرجى منه خيراً لأخيه، ولا يبني بيتاً أو يستر عرضاً أو يحتوي زوجاً، شكّاء بكّاء صيّاح أعور لا يرى حتى أنصاف الحقائق ولا العلامات ولا المُسلّمات، يتفنن في إهدار الوقت والعمر منتظراً فرجاً أو آيةً من السماء.
لا يتخلّى عن شيء.. ولا يستغني.
وإن قيل له قاطع أعرض وتولّى.
وما نتولّى عنه اليوم.. نُعـذب به غداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.