ما من عبادةٍ فرضها الله تعالى على عباده المؤمنين إلا ولها مقاصد عظيمة وفوائد جليلة، ومنافع كثيرة في الدنيا والآخرة معاً، ولعل من أبرز تلك العبادات والشعائر فريضة "الحج" إلى بيت الله الحرام، فهي أحد أركان الإسلام الخمس، وقد فرضها الله تعالى مرةً في العمر على القادر والمستطيع، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]. وهي فريضةٌ مباركة تنطوي على غايات عظيمة ومنافع متعددة، قال سبحانه: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 27-28].
ولا يجوز تأخير الحج ولا التهاون به لغير عذر، على المسلم تأدية هذه الفريضة متى تحققت شروطها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". (أحمد: 2869).
والحج مدرسةٌ روحية وتربوية عظيمة، فهو ليس عبارةً عن شعائر ومناسك مجردة عن أي بعد روحي ونفسي وخُلقي، فالمتأمل في شعائر هذه العبادة ومناسكها يستشعر المعاني والمقاصد الإيمانية الرفيعة والدلالات التربوية العظيمة التي يشعر بها الحجاج أثناء تأديتهم لهذه الفريضة، فالحج ينمّي في الحجاج الشعور بوحدانية الله تعالى، فيستشعر الناس معاني التوحيد من خلال وحدة المناسك والمشاعر والعبادات، ووحدة الأقوال والأدعية، فجميع من في الحرم مسلمون يعبدون رباً واحداً ويتبعون رسولاً واحداً، فلا يعظمون إلا الله تعالى وحده، قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [ الحج: 26].
وإن الحجاج عندما يطوفون معاً بلباس واحد وعلى صعيد واحد، ويتساوون فيما بينهم، فلا أنساب ولا تفاضل ولا رتب بينهم، فإنهم يتطهرون من مظاهر العظمة الدنيوية والكبرياء المزيف والكبر الممجوج، فيتساوى الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعالم والطالب، كلهم عبادٌ لله وحده، لا يعلو أحدهم على الآخر ولا يتفاخر عليه، فيتحقق المقصد الجليل من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
والحج مدرسةٌ تربوية تنمّي في الحاج ذكر الله تعالى والمداومة عليه والإكثار منه، فذكر الله تعالى مقصد أساسي من مقاصد هذه العبادة المباركة، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28]، وقال سبحانه: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 198، 199].
والحج يربي الحجاج على الأخلاق الفاضلة كالعفو والحلم والرحمة والكرم والإحسان، وتدربهم على الإقلاع عن الأذى في القول والفعل، وتجنب الغضب واللغو وغيره، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197]. كما ينمّي الحج في الحاج فضيلة الصبر، بل إن من أعظم الدروس التي يتعلمها حجاج بيت الله الحرام قيمة الصبر والتدرب النفسي والجسدي على ممارسة تلك الفضيلة، وذلك لما تتضمنه شعائر تلك العبادة من صور التربية على الصبر والتدريب على تحمل المشاق في سبيل مرضاة الله تعالى، كالطواف والسعي والوقوف على عرفة والمبيت في مزدلفة وغيرها، وأيضاً الصبر على الامتناع عن الشهوات، فالحاج لا يقتصر على الامتناع عن المحرمات، بل يمتنع أيضاً عن بعض المباحات في اللباس والطيب وغيره. وأيضاً فإن الحاج يصبر على ما يمكن أن يتعرض له أثناء أداء المناسك من أذى الناس وجهلهم، وذلك بسبب كثرة الحجاج وازدحامهم واختلاف طبائعهم، ولذلك فالحاج لا يستطيع أداء مناسك الحج على أكمل وجه إلا إذا استعان بالصبر وصبّر نفسه.
ومما يزيد من بركة الحج وفضل هذه الفريضة العظيمة، هو أنه فرصةٌ للتوبة وتزكية النفس للحجاج وغيرهم، فأيام الحج موسمٌ عظيم المغانم والأجر لمن أحسن استغلاله، وأبواب حصاد واستغلال هذا الموسم مفتوحة لجميع المسلمين، فلا تقتصر على الحجيج، حيث خصّ الله تعالى أيام العشر من ذي الحجة بالمزيد من الفضل والبركة ومضاعفة الأجر والثواب، وجلعها موسماً للطاعة ففضلها على غيرها من مواسم وأوقات السنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ"، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". (البخاري :969).
فيستحب فيهن الإكثار من الطاعات والأعمال الصالحة، وأهمها الإكثار من ذكر الله تعالى، قال سبحانه: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [سورة الحج: 28]، والمقصود بتلك الأيام العشر من ذي الحجة، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" (أحمد: 5446).
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي وبذل المال في سبيل الله تعالى بالإكثار من الصدقات وإطعام المساكين، قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 27، 28]، وقال سبحانه: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج: 37].
ومما يزيد فضل هذه الأيام أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم المبارك الذي وردت الكثير من الأحاديث في فضله، فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ اللهُ فيه عبيداً من النَّارِ من يومِ عرفةَ، وإنه لَيدنو، ثم يباهي بهم الملائكةَ فيقول: ما أراد هؤلاءِ؟". (مسلم: 1348)، ويستحب الصيام في هذا اليوم الفضيل، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ، وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ" (مسلم:1162).
فيتوجب على المسلمين اغتنام هذه الأيام المباركات، بأن يحرص المستطيع منهم على أداء فريضة الحج، مستحضراً قوله صلى الله عليه وسلم: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ" (البخاري: 1773)، أما من لم يستطع فعليه الإكثار من الطاعات والأعمال الصالحة كذكر الله والصلاة والصيام وتلاوة القرآن والصدقات في هذه الأيام الفضيلة، لأنها فرصةٌ للتوبة وتكفير الذنوب ومضاعفة الأجر لا يضيعها إلا خاسر ومحروم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.