هل يمكن للكتابة أن تشفينا نفسياً وجسدياً؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/06/11 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/06/11 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

منذ طفولتي، كانت الكتابة بالنسبة لي أكثر من مجرد هواية؛ إنها طريقة للوجود في هذا العالم. لم تكن الكتابة وسيلة للتعبير عن رأي معين أو لنقل رسالة محددة، بل كانت دائماً نهجاً لاستكشاف وجودي والتعبير عنه. من خلال الكتابة، كأنني أصنع عالماً جديداً؛ كل نص أكتبه يبدو وكأنه إضافة جديدة للوجود، إنشاء كيان لم يكن موجوداً من قبل.

فالكتابة بالنسبة لي هي فعل صنع، تحويل الأفكار والمشاعر إلى كيانات ملموسة تتخذ مكانها في العالم. هذه العملية توفر لي متعة لا توصف، وخصوصاً عندما أكتب شخصيات وقصص وعوالم لم يسبق لها أن عرفت، حتى بالنسبة لي. في كل مرة أكتب فيها نصاً جيداً، أشعر وكأنني أنشأت عالماً كاملاً، مما يجلب لي شعوراً عميقاً بالإنجاز والرضا.

وأحياناً، أفكر في الكتابة كنوع من الإدمان، إذ تسبب لي نوعاً من الشغف الذي يصعب التخلص منه. الإعجاب الذي أتلقاه من الآخرين يغذي هذا الإدمان، ورغم أنني أحياناً أتردد في الاعتراف بذلك، إلا أنه يمنحني لحظات من الرضا والهدوء. وعندما أواجه الإحباط، فإن الكتابة تبعث في داخلي شعوراً بالحيوية والنشاط لا يمكن وصفه. في الأيام التي لا تجد فيها الكلمات الشعرية طريقها إلي، ألجأ إلى كتابة يومياتي، التي أصبحت بمثابة صديقي الأقرب، خاصة خلال السنوات الأخيرة في أنقرة.

لكني بعد فترة لاحظت أن الكتابة أيضاً، لا تملأ روحي فحسب بل جسدي أيضاً، فعندما يغلبني الإحباط، أجد الكتابة تدفعني وتملأني بشعور لا أجد له تفسيراً، لكنه فيه شيء من الطاقة. بالطبع لا أجد كل يوم كلمات شعرية ورؤى أدبية لأكتبها، لذلك، أجد نفسي أكتب يوميات، مثلَ كثير من  المراهقين، فغالباً ما أشعر وخصوصاً خلال السنوات الأخيرة في أنقرة أنّ كرّاسة يومياتي هي الصديق الأقرب لي.

هل يمكن للكتابة أن تشفينا نفسياً وجسدياً؟
صورة تعبيرية – shutterstock

إذ ربما تذكرني بجزء قديم منّي، إذ كنتُ في سنوات المراهقة أنسحبُ بعد العمل في حقلنا، إلى شجرة قديمة كان عمرها من عمري غالباً، وأنا بجسد هزيل ومتعب من أعمال الفلاحه؛ لكن حالما كانت العبارات التي أكتبها في كرّاسة اليوميات تتّخذ شكلها المطلوب على الورقة فإنّ تعبي وعرقي الذي كان يرزخ تحت ملابسي، وبغضّ النظر عن مدى إحساسي به، كان يتبدّدُ ويتلاشى من عقلي و أطرافي. لم أكن بالتأكيد قادراً على تصفير كلّ إرهاق أو حزن أو جعله منسياً في العدم؛ لكنّي على الأقل كنتُ أشعر عقب ممارسة كتابة يومياتي بأنني أكثر هدوءاً، كما لو أنّ همّاً ثقيلاً انزاح عن صدري.

كنت أفسر ذلك لسنوات بشكل روحي، وربما أحياناً أقول إنه سكينة الغروب وهواء الأرض الفسيحة يخدرني لساعات قادمة، أو ربما هو وصول التعب الجسدي لدرجة لم يعد جسمي يرسل إلى مخي رسائل الإحساس بالألم.

وبالصدفة، منذ حوالي أسبوع، وجدت مقالة تتحدث عن قدرة الكتابة التعبيرية على التأثير في أنفسنا وأرواحنا، بصراحة اعتقدت أن المقال سيكون عاطفياً ومبالغاً ولا يتخطى كونه تجربة شخصية لأحد الكتاب، إلا أنه كان بعكس ذلك، إذ وجدت به دراسة للبروفيسور يدعى جيمس بنبيكر وبعد زملائة الباحثين، تشير إلى أن الكتابة اليومية تستطيع التعجيل بزمن التعافي، فضلاً عن أنها تبدو قادرة على تخفيض ضغط الدم وتحسين كفاءة عمل الرئة.

وبنيت الدراسة على تجربة  قام بها البروفيسور جيمس بنبيكر بمساعدته طلابه، حيث طلبا من مجموعة من الطلاب كتابة مقالة لمدة خمس عشرة دقيقة يومياً لأربعة أيام متتالية. البعض كتب عن تجاربه الشخصية المؤلمة والعميقة، بينما كتب آخرون عن موضوعات يومية بسيطة مثل وصف غرف نومهم أو أحذيتهم. الطلاب الذين كتبوا عن تجاربهم المؤلمة عانوا من مشاعر حزن متزايدة بعد الكتابة، لكنهم على المدى الطويل قللوا من زياراتهم للمركز الصحي الطلابي مقارنةً بأولئك الذين كتبوا عن الموضوعات العادية، ومع الاستعانة باختبارات الدم. بيّنت التجربة أنّ أفراد المجموعة الذين عبّروا عن مشاعرهم الدفينة لأربعة أيام متتالية صارت كريات الدم البيضاء لديهم تشهد تكاثراً بمعدّل أسرع، بالإضافة إلى هذا الأمر كشفت دراسات لاحقة أنّ الكتابة التعبيرية تستطيع التعجيل بزمن التعافي.

 ولعل ذلك، يرجع لامتلاك الكتابة التعبيرية القدرة الفعّالة على التخفيف من الأعباء النفسية التي تثقل كاهلنا، إذ تساعد في خفض مستويات التفكير السلبي المتكرر وتحرر الذاكرة العاملة لتتمكن من التركيز على الأمور الأكثر أهمية بدلاً من القضايا اليومية العابرة. هذه الحقيقة تأتي متسقة مع تجربتي الشخصية؛ حيث أجد أنه عندما أكون مثقلاً بالإجهاد الذي يسبب لي الاكتئاب، تتجمع كل مخاوفي وتوجساتي في مركز تفكيري، مما يصدني عن مصادر السعادة المعهودة مثل القراءة. ومع ذلك، عندما ألجأ إلى كتابة بعض الخواطر في دفتر يومياتي، ألاحظ أن الكآبة والإجهاد يبدآن بالانحسار والتراجع، بعد أن أزيح عنهما الاهتمام الذي كان يُسيطر على تفكيري قبل بدء الكتابة.

في الختام، ربما أجد نفسي أدعو كل من يبحث عن ملاذ في هذا العالم المضطرب إلى أن يجد ضالته في الكتابة، ففي كل سطر نكتبه، ربما نصنع فسحة من الفرص للشفاء والتجدد، فنستطيع من خلاله أن نواجه تحديات الحياة بقلب مفعم بالتفاؤل والشجاعة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد