لم يعد دمج الذكاء الاصطناعي في النسيج الاجتماعي والاقتصادي العالمي مجرد احتمال بعيد، بل أصبح حقيقة متسارعة. يمثل عام 2024 لحظة فاصلة، حيث تعيد القوة التحويلية للذكاء الاصطناعي تشكيل الصناعات والاقتصادات وطبيعة العمل نفسه. إن هذه الثورة التكنولوجية لا تعمل على تعزيز القدرات البشرية فحسب، بل تعمل على إعادة تعريف كيفية عيشنا وعملنا، ما قد يخلق فرصاً غير مسبوقة بالتوازي مع تحديات معقدة تتطلب اهتماماً وتطويعاً فكرياً وعملياً مركباً.
صعود الأتمتة الذكية
إن التأثير الأكثر وضوحاً ومباشرة للذكاء الاصطناعي هو تسريع "الأتمتة الذكية"، أي خفض الكلفة عبر اعتماد برامج آلية مشغلة بالذكاء الاصطناعي، إذ تشير أحدث الأبحاث التي أجرتها شركة ماكينزي آند كومباني إلى أن ما يقرب من نصف جميع أنشطة العمل يمكن أتمتتها باستخدام التقنيات الحالية. ولا يقتصر الأمر على الوظائف اليدوية؛ فحتى المهن ذات الياقات البيضاء مثل القانون والطب والتمويل تشهد أيضاً موجة من التغييرات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. وأصبحت الخوارزميات الآن قادرة على صياغة المستندات القانونية وتشخيص الأمراض وإدارة المحافظ المالية، وهي مهام كان يعتقد في السابق أنها مجال حصري للمهنيين المدربين تدريباً عالياً.
ومع ذلك، يمكن اعتبار أن سرد "الروبوتات التي تسرق الوظائف" مفرط في التبسيط. ففي حين أن بعض الأدوار معرضة للخطر بلا شك، فإن الذكاء الاصطناعي يخلق في الوقت نفسه مسارات مهنية جديدة في مجالات مثل علم البيانات وهندسة التعلم الآلي وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. ويتوقع تقرير مستقبل الوظائف لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن الذكاء الاصطناعي سيخلق 69 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2027، في مقابل استبعاد 83 مليون وظيفة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز الأدوار الحالية، ما قد يسمح للعمال بالتركيز على المهام ذات المستوى الأعلى والتي تتطلب مهارات بشرية فريدة مثل الإبداع والتفكير النقدي والذكاء العاطفي.
نموذج اقتصادي جديد
وتُعد تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي ثورية بلا شك. فوفقاً لتقرير صادر عن شركة "برايس ووترهاوس كوبرز"، من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنحو 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو رقم يفوق الناتج المحلي الإجمالي الحالي للصين والهند مجتمعتين. هذا النمو لا ينحصر فقط في تحسين الكفاءة، بل يشمل أيضاً خلق قيم اقتصادية جديدة وإعادة هيكلة صناعات كاملة.
وليس مبالغة بالقول إنه قد بدء عصر اقتصاد جديد بالفعل، والذي يمكن أن نسميه بـ"اقتصاد الذكاء الاصطناعي"، فالشركات العملاقة في مجال التكنولوجيا مثل جوجل ومايكروسوفت وأمازون تستثمر اليوم مليارات الدولارات في بحوث وتطوير الذكاء الاصطناعي. بينما، تقوم الشركات الناشئة أيضاً والمتخصصة في هذا المجال بتحدي الأسواق القائمة بمنتجات وخدمات مبتكرة. هذا التطور قد أشعل سباقاً عالمياً نحو الهيمنة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، مع تنافس الدول للحصول على موقع الريادة في هذا المجال الرائد. من المتوقع أن يفتح صعود اقتصاد الذكاء الاصطناعي أسواقاً جديدة ويدفع عجلة الابتكار، ما يؤدي إلى نمو اقتصادي غير مسبوق، لكنه يثير أيضاً مخاوف بشأن الفجوات في المساواة وتركز القوة في يد عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا.
إعادة النظر في مفارقة الإنتاجية
تثير قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية البشرية جدلاً واسعاً. فمن ناحية، تشير العديد من الدراسات إلى تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاج والكفاءة، بينما تسلط دراسات أخرى الضوء على "مفارقة الإنتاجية"، حيث لم تظهر بعد الفوائد الكاملة للذكاء الاصطناعي. يُعزى هذا التأخير جزئياً إلى الفترة اللازمة للشركات للتأقلم مع التقنيات الجديدة، إلى جانب الحاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتدريب، والتحديات المرتبطة بدمج الذكاء الاصطناعي في العمليات القائمة.
ومع ذلك، تظهر بوادر مبشرة على تجاوز هذه المفارقة. الشركات التي أدمجت الذكاء الاصطناعي بفعالية ترصد مكاسب ملموسة في الإنتاجية، تحسين عمليات صنع القرار، وتعزيز تجارب العملاء. على سبيل المثال، في قطاع الرعاية الصحية، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل الصور الطبية للكشف المبكر عن الأمراض مثل السرطان بدقة أكبر من المتخصصين البشر، ما يسهم في تشخيصات أسرع وتحسين نتائج العلاج. في المجال المالي، يوفر المستشارون الروبوتيون المدعومون بالذكاء الاصطناعي استشارات استثمارية شخصية بتكلفة أقل بكثير مقارنة بالمستشارين التقليديين، ما يمكن الأفراد من الوصول الأوسع إلى خدمات إدارة الثروات. وفي قطاع التجزئة، تسهم محركات التوصية المعززة بالذكاء الاصطناعي في تخصيص تجارب التسوق وزيادة المبيعات، بينما تحسن أنظمة إدارة المخزون المدعومة بالذكاء الاصطناعي كفاءة المخزون وتقلل الهدر.
الطريق إلى مستقبل مدعوم بالذكاء الاصطناعي
لا تزال ثورة الذكاء الاصطناعي في بداياتها، ولكن مسارها يبدو محدداً. فعالم العمل يُعاد تشكيله، والمشهد الاقتصادي يتغير، وطبيعة الإنتاجية البشرية نفسها تتطور. سيكون التكيف مع هذه التغيرات، مع التركيز على التعليم وتعزيز المهارات والاعتبارات الأخلاقية، عنصراً حيوياً في التعامل مع هذا العصر الجديد.
لذلك، يتعين على الحكومات والمؤسسات التعليمية الاستثمار في برامج التدريب لتزويد العمال بالمهارات اللازمة للنجاح في الاقتصاد المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وعلى الشركات اعتماد ممارسات الذكاء الاصطناعي المسؤولة، وإعطاء الأولوية للشفافية والإنصاف والمساءلة. وأرى أنه يجب النظر لمستقبل العمل لا في إطار البشر في مواجهة الآلات؛ بل في إطار تعاون البشر والآلات ضمن إطار أخلاقي لتحقيق مستويات غير مسبوقة من الابتكار والازدهار. فاحتضان الذكاء الاصطناعي مع فهم واضح لإمكاناته ومخاطره ووضع حدود له ربما يكون مفتاح دعم للحياة في هذا العصر السريع. لكن وتجنباً للأفراط في التفاؤل، يجب الوعي بأن الطريق إلى مستقبل مدعوم بالذكاء الاصطناعي مليء بالتحديات والفرص، ويتعين علينا أن نتعامل معه بحكمة، ونضمن أن يخدم الذكاء الاصطناعي الإنسانية ويخلق عالماً أكثر إنصافاً وازدهاراً للجميع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.