بعيداً عن الأوروغواي، وعلى مدى عقود من الزمن، اضطر الروائي إدواردو غاليانو للعيش بعيداً عن أرضه ووطنه، حيث شكلت تلك السنوات مادة خصبة لإبداعاته الأدبية. في روايته "الأغنية التي لنا"، يستهل غاليانو الفصل الأول بقصيدة تلهج بالشوق إلى بلده ومدينته المسلوبة، التي طالما كانت مثالاً للتمويه والإخفاء، وهي التي عمدت إلى طمس ملامحها أمام أبنائها. يستفسر فيها بلهفة عما إذا كانت ستفصح يوماً عن حكايتها، أو هل ستناجي أبناءها همساً، ويتساءل عما إذا كانت ستكشف عن الجروح العميقة التي خلفتها الطلقات والحروق والخيانات التي تعرضت لها.
غاليانو يطرح من خلال هذه الرواية مشهداً مأساوياً لمدينة يسيطر عليها الخوف والقمع، حيث اجتاحها العسكر وتفشت المحاكمات الميدانية والوشاية، في وقت اختفت فيه العدالة وتم توظيف القانون لخدمة السلطات المستبدة. هذا الواقع المرير يلقي بظلاله على العلاقات الإنسانية، حيث تُفقد الثقة ويتناقص الشعور بالمسؤولية.
في ظل هذه الأجواء القاهرة، يُسلط غاليانو الضوء على الدور الحيوي للذاكرة في الحفاظ على التفاصيل والتجارب القاسية، واعتبارها محفزاً للسعي نحو التغيير المنشود. في قلب وطنه المحاصر، يرسم إدواردو غاليانو لوحة قاتمة لواقع يشوبه اليأس والقهر. تحت وطأة حكم سلطة مستبدة، يعيش الناس في ظروف مروعة، حيث الجوع يكوي أحشاءهم ويدفعهم نحو ارتكاب أفعال مشينة. غاليانو يصف هذا الجوع بأنه "خنجر بطيء يمزق الأمعاء"، مشيراً إلى الألم الصامت والمستمر الذي يعاني منه السكان.
في تصويره ليوميات المدينة، يبرز غاليانو مشاهد الشوارع المليئة بالمتسولين والجوعى، في مدينة تغص بالناس الذين تركتهم السلطة ليواجهوا مصيرهم. بينما تستمر السلطات في ممارسة استبدادها، يظهر الروائي كيف تحتكر القوة، مستغلة كل فرصة لإحكام قبضتها على الناس، بينما تفتقر إلى الشجاعة لارتكاب أي عمل يمكن أن يعتبر بنّاء أو إيجابياً. بدلاً من بناء المستقبل وتعزيز تنمية المدينة، تفتتح السلطة سجوناً جديدة مع بداية كل شهر، في دلالة صارخة على أولوياتها المشوهة ونهجها في إدارة البلاد.
في ظلال رواية إدواردو غاليانو، يعكس بطل القصة، ماريانو، صورة ذلك الإنسان الذي يحاول استعادة مكانه في عالم تغيّرت معالمه. يخرج ماريانو من غياهب السجن، حيث العزلة والظلم، ليجد نفسه في مدينة تبدو كأنها ثكنة عسكرية، بعيدة كل البعد عن الذكريات الطفولية التي كانت تحفر في ذاكرته صورة المكان الآمن والمريح. يلتقي بصديقته كارلا، ويبوح لها بمعاناته وبما شهده من أهوال داخل الأسوار التي حبست حريته وحرية أصدقائه الذين لم يوفقوا في الهرب.
هذا السرد، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مرتبطاً بزمان ومكان محددين، يحمل صدى عميقاً في عالمنا المعاصر. إذ نرى القمع الهمجي في العديد من الأماكن في العالم حتى في أكثر الأماكن التي ادعت الديمقراطية والحرية، حيث يتم التلاعب بالقوانين لخدمة القلة القابضة على السلطة، ويعاني الأبرياء من الاستغلال والظلم بلا هوادة. العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يخلو من المشاهد التي تذكرنا بمدينة ماريانو، حيث الحريات مقيدة والأصوات المطالبة بالعدل إما مكتومة، مقموعة أو مقتولة.
في الوقت الذي يعاني فيه الكثيرون من الظلم والاضطهاد، تصبح كلمات كتلك التي كتبها غاليانو في الرواية بمثابة المرايا التي تعكس واقعنا، مذكّرةً إيانا بأن الأحداث التي تجري في صفحات الكتب ليست بالضرورة خيالية أو بعيدة عن واقعنا. إنها تذكرنا بأن لا نتماهى ولا ننتاسى وربما تدفعنا للمقاومة واقعنا البشري البائس، لاستعادة العدالة والإنسانية في مجتمعاتنا التي تتعرض للتهديد بنفس الطريقة التي عانى منها ماريانو وأصدقاؤه.
كان ماريانو في الرواية يسائل مدينته بقلب دامٍ، يسأل عما إذا كانت ستمده بالسيوف يوماً ما ليدافع عنها، بالمرايا ليعكس جمالها، بالنبيذ ليحتفل بنضالها، وبالأصوات ليعلي شأنها. وهل سيكون قادراً على أن يغني لها وهو مستلقٍ على العشب، يردد بصوت أعمى أغانيها التي تحكي قصصها.
واليوم، أطرح أنا أيضاً سؤالاً على عالمنا: هل ستمنحنا فرصة لنقاوم ونحيا حقاً؟ هل ستعطينا الوقت لنستمتع بأرضنا وبمدنها ومسارحها وأنهارها كما يفعل الأحرار؟ هل ستسمح لنا بأن نعيش دون خوف، بأن نحلم دون قيود، وأن نحب دون حدود؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.