نفذ الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة النطاق بشكل مفاجئ في مخيم النصيرات وسط النهار، مرتكباً مجزرة مروعة راح أغلب ضحاياها من نساء وأطفال. وعلى أشلاء الضحايا، أعلن الاحتلال عن إطلاق سراح أربعة من أسراه.
وقد أشار العديد من المحللين إلى أهمية توقيت العملية، الذي يبدو أنه صُمم ليخدم مصالح نتنياهو في وقت تواجه فيه حكومته خطر الانهيار، خاصة بعد الاستقالة المتوقعة لبيني غانتس. فبعد أكثر من 245 يوماً من حرب الإبادة الجماعية في غزة، دون تحقيق أي هدف، ربما يشعر قادة الاحتلال بانتشاء مؤقت، لكن ذلك لا يعكس نهاية الحرب. فالاحتلال لم يحقق أهدافه المعلنة رغم الفاتورة الدموية الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني، بما في ذلك أكثر من 36 ألف شهيد وحوالي 84 ألف جريح، إضافة إلى تدمير يشمل نحو 70% من المباني في القطاع. لذلك، لا يمكن اعتبار ما حدث إنجازاً حقيقياً للاحتلال، خاصة بعد أكثر من 8 أشهر من العدوان المتواصل، وبقاء أكثر من 100 أسير إسرائيلي لدى المقاومة.
في ظل هذه الأزمة العميقة التي يمر بها الاحتلال، يحاول نتنياهو بكل الطرق تحقيق انتصار وهمي لإثبات قدرته أمام الجمهور الإسرائيلي، مع العلم أن المقاومة تستمر في توجيه ضربات قاسية وتحقق تطورات كبيرة. الفترة الأخيرة شهدت تصاعداً غير مسبوق في الأحداث داخلياً وخارجياً تؤثر على حكومة الاحتلال، بما في ذلك تهديدات بالاستقالة من مجلس الحرب، مما دفع نتنياهو إلى محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوضع الراهن.
يسعى الاحتلال بكل الطرق لاسترجاع هيبته المدمرة، ورغم أن الأمر لم يتعدّ تهريب 4 أسرى، وهو رقم ليس بكبير، إلا أن نتنياهو يهول من كل حدث على أنه انتصار كبير حتى ولو كان بمساعدة طريق الإدارة الأمريكية.
وفقاً للمعلومات الأولية، تنكّرت قوات الاحتلال في شاحنة تحمل مساعدات إنسانية للوصول إلى عمق مخيم النصيرات، حيث ارتكبت مجزرة مروعة. عند اكتشافها، اندلعت اشتباكات عنيفة أسفرت عن مقتل وإصابة أحد جنود الاحتلال. كما استخدم الاحتلال طيرانه الحربي وقصفه المدفعي لتغطية انسحابه، مخلفاً وراءه أكثر من 210 شهداء و400 جريح.
ما حدث من لا يمثل إنجازاً حقيقياً لجيش الاحتلال، الذي يمتلك ترسانة عسكرية متطورة ودعماً من أجهزة الاستخبارات العالمية، خصوصاً في مواجهة مقاومة بإمكانيات محدودة. بل على العكس، يبرز مدى تخبط الاحتلال الذي لم يتمكن من الوصول إلى أهدافه على مدى الأشهر الماضية، على الرغم من استخدام أحدث التقنيات العسكرية والاستخباراتية، إذ يسعى لإعلان أي انتصار ضئيل يلملم كبرياءه ودعم داعميه الغربيين في ظل خسائر يتكبدها كل يوم.
فالاستنفار الكامل لدولة الاحتلال بجيشها وأسلحتها واستخباراتها لإطلاق سراح بعض الأسرى بتواطؤ أمريكي يظهر مدى العجز الذي وصلت إليه، ويؤكد فقدان الثقة في قدراتها ومقدراتها العسكرية أمام مقاومة قوية.
تغطية الإخفاقات
عملية النصيرات التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي تكشف عن نوايا وخطط سياسية للتغطية على سلسلة من الإخفاقات العسكرية والأمنية، حيث يحاول الاحتلال استغلال الإعلان عن إطلاق سراح أربعة أسرى من قطاع غزة لرسم مشهد سياسي وإعلامي يختلف تماماً عن الواقع الذي شهدته الأشهر الماضية. هذه العملية لا تمثل فقط تكتيكاً عسكرياً، بل هي جزء من اللعبة السياسية الداخلية للاحتلال، فهي موقوتة بعناية لتوفير مخرج لنتنياهو من الأزمات المتلاحقة التي تهدد بتفكك تحالف الحرب الذي يقوده، وتساعده في تجاوز الفشل الذي طال أمده لثمانية أشهر.
إذ تأتي العملية في وقت كان فيه بيني غانتس، عضو مجلس الحرب، على وشك الإعلان عن استقالته من الحكومة، وفقاً للتقديرات، مما يظهر الارتباك الذي يعتري الإدارة الإسرائيلية. وفي سياق متصل، كانت الحملة الإعلامية المصاحبة للعملية تهدف إلى إظهار الحدث كواقعة ذات تداعيات بالغة، في محاولة لإرباك قرار المقاومة والضغط عليها للقبول بالطرح الإسرائيلي لصفقة تبادل.
إن الاحتلال يسعى بارتكابه مجزرة النصيرات إلى تسجيل أي انتصار وهمي على حساب دماء الشعب الفلسطيني، بل حتى إنه لا يكترث بحياة أسراه، إذ إنه يمكن أن تؤدي عمليات مماثلة إلى مقتلهم، أو مقتل جنود آخرين شاركوا في العملية، أو حتى إلى أسر المزيد من الجنود الإسرائيليين، كما شهدنا في أحداث مشابهة مؤخراً في جباليا.
أخيراً، يجب ألا ننسى أن تلك العملية التي حدثت بعد مساعدة أمريكية، إذ لم يستطع الاحتلال منذ بداية الحرب من فعل عملية كلتلك، وهذا يسجل للمقاومة التي منعت الاحتلال وأجهزته الأمنية والاستخبارتية الأحدث في العالم من انتزاع أسراه من غزة المحاصرة. لذلك، لا أعتقد أن تلك العملية ستؤثر على المقاومة التي قالت كلمتها مسبقاً على أن "الثمن الذي سنأخذه مقابل 5 أسرى أحياء أو 10 هو نفس الثمن الذي كنا سنأخذه مقابل جميع الأسرى".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.