من الطباشير إلى التحديث.. كيف كان التعليم مفتاح النهضة في اليابان؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/06/06 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/06/06 الساعة 09:22 بتوقيت غرينتش
مدرسة في اليابان - shutterstock

تُظهر اليابان تفهماً عميقاً لأهمية التعليم في تشكيل مستقبلها، حيث تضع في مقدمة أولوياتها تنشئة جيل جديد يتحمّل المسؤولية تجاه وطنه وأمته. هذه الرؤية لا تهدف فقط إلى ضمان حياة كريمة وسعيدة للأطفال، بل تستهدف أيضاً تعزيز المنافسة العالمية. اليابان مدركة تماماً لقلة مواردها الطبيعية،  لذلك تستثمر في شعبها موردها الأهم فرأت أن التعليم هو السبيل لبناء مجتمع قوي يساهم في تعزيز الدولة الديمقراطية والثقافية ويعمل كحجر زاوية في تحقيق الاستقرار والازدهار لها.

 ولتحقيق هذه الأهداف، تسعى اليابان لإعداد التعليم الذي يقدّر كرامة الفرد، ويسعى إلى غرس القيم في شعب يتوق إلى العدالة، ويحترم تقاليده وثقافته.

من أجل تحقيق هذه الأهداف المتعددة، سعت اليابان إلى صياغة نظام تعليمي متقدم لكنه يحترم كرامة الفرد ويغرس قيم العدالة واحترام التقاليد. فسياسة التعليم في اليابان تبلورت حول عدة محاور رئيسية:

  • إثراء المعرفة: تسعى لتزويد طلابها بمعارف وثقافة واسعة، مع تشجيع البحث المستمر عن الحقيقة وغرس الأخلاق الحميدة، بجانب التأكيد على الصحة البدنية.
  • تنمية القدرات الفردية: تركز على تعزيز الإبداع والاستقلالية، مع تقدير كبير لقيمة الفرد والربط بين الحياة المهنية واليومية، مُعلِّين شأن احترام العمل.
  • تعزيز المسؤولية الاجتماعية: تحث على احترام العدالة والمساواة، وتنمي قيم المسؤولية والتعاون بين الجنسين، مع التأكيد على الفاعلية في بناء المجتمع.
  • الاهتمام بالطبيعة والحياة: تعزيز احترام الحياة والعناية بالطبيعة كجزء لا يتجزأ من الثقافة التعليمية.
  • الحفاظ على الهوية الثقافية: تُعلي من قدر الثقافة والتقاليد الوطنية، مع تنمية الاحترام للدول الأخرى وتعزيز الرغبة في المساهمة في السلام العالمي.

هذه الأهداف تُظهر إصرار اليابان على تحقيق توازن بين التقدم والحفاظ على القيم التقليدية، وتوجيه المجتمع نحو تعاون دولي أكثر فاعلية ومساهمة في السلام والتنمية العالمية.

من الطباشير إلى التحديث.. كيف كان التعليم مفتاح النهضة في اليابان؟
فصل الدراسي بمدرسة إعدادية في اليابان – shutterstock

بالنسبة لليابان، يعتبر التعليم أداة أساسية للدفاع عن حضارتهم وتاريخهم، ويرى اليابانيون فيه الوسيلة التي مكنتهم من الوصول إلى مراكز متقدمة في العالم. بفضل رؤية قادتهم الذين عملوا على تطوير النظام التعليمي وتوظيفه بفاعلية، تمكنت اليابان من تخريج أجيال قوية ومثقفة ومبدعة، تحمل في طياتها روح الجماعة العميقة.

هذا النظام التعليمي الياباني يجمع بين سمات الحداثة وعمق الثقافة اليابانية التقليدية، حيث يبرز التركيز على الوحدة الجماعية سواء في الفكر أو السلوك. يعتنق اليابانيون بشدة فكرة تزكية ثقافة الجماعة للحفاظ على تماسك المجتمع، وهذا يظهر بوضوح في الأسر والمدارس وأماكن العمل. يجد اليابانيون رضا عميقاً عندما يتشابهون في الملبس والسلوك وأسلوب الحياة، وحتى في الطريقة التي يفكرون بها ضمن معايير الجماعة.

منذ الطفولة، يُزرع في الأطفال اليابانيين هذا الفكر الجماعي، عندما يدخل إلى المؤسسات التعليمية التي تعزز من فكرة أنه جزء لا يتجزأ من الجماعة، مع واجب يحتم عليه العمل الدؤوب للحفاظ على وحدتها وتماسكها. هذا الالتزام يتجلى في تبني استراتيجيات بيداغوجية تركز على العمل الجماعي في جميع مراحل التعليم.

عندما يخطو الفرد الياباني إلى عالم العمل، يجد نفسه ضمن مجتمع يُعلي من شأن العمل الجماعي، من المزارع إلى مكاتب الشركات الكبرى. في اليابان، الوظيفة ليست مجرد ترتيب تعاقدي يهدف لكسب الراتب، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية الفرد، حيث يصبح عنصراً أساسياً في النسيج الاجتماعي الأوسع.

النزعة الجماعية تعتبر من السمات البارزة للمجتمع الياباني، وهذه الخاصية ليست حديثة العهد بل تمتد جذورها عبر تاريخ الإمبراطورية اليابانية. هذا الأساس جعل المجتمع الياباني متماسكاً وقوياً، بعيداً عن أي اختراق أو تشويه لهويته الجماعية. وفي هذا المجتمع، لا تُعتبر الفردية سوى جزء مكمل لدور الجماعة، إذ لا يمكن فهم دور الفرد التنموي بمعزل عن إطاره الجماعي.

وعي الشعب الياباني بأهمية الانسجام والوحدة، وقناعتهم الراسخة بأن مصير دولتهم مرتبط بتكاتف أفرادها، دفعهم للاستثمار بكثافة في قطاع التعليم. يعملون على تطويره ليكون الوسيلة للنهوض ومجاراة الحضارة التي غابوا عنها بسبب عزلة اليابان التاريخية. الهدف الأسمى لنظام التعليم الياباني هو تخريج مواطنين يقدرون ويقدسون وحدة الجماعة.

لقد استطاع اليابانيون استثمار التعليم كأداة للتنمية، موقنين بأنه سلاحهم لتحقيق غاياتهم العليا في الحفاظ على تماسك مجتمعهم وتقدم بلادهم، محولين التعليم من مجرد وسيلة لاستكشاف الإمكانيات الفردية إلى عملية تسهم في تحقيق الأهداف القومية.

مع فتح اليابان أبوابها للعالم قبيل عصر "الميجي"، وهي فترة شهدت تحولات جذرية بعد أكثر من قرنين من حكم سلالة التوكوغاوا، أدرك قادتها الحاجة الملحة للاستفادة من التجارب الدولية. في هذا الإطار، قام "الشوغن" ( اللقب الذي كان يطلق على الحاكم العسكري) في عام 1860 بإرسال بعثة تعليمية مكونة من 80 ساموراي إلى الولايات المتحدة، تبعتها بعثات إلى إنجلترا وهولندا وفرنسا في الأعوام 1862 و 1863.

من الطباشير إلى التحديث.. كيف كان التعليم مفتاح النهضة في اليابان؟
الإمبراطور ميجي صانع نهضة اليابان المبكرة / shutterstock

في سعيها لتطوير نظامها التعليمي، عدلت اليابان مناهجها لتخدم أهدافها الوطنية، مستفيدة قدر المستطاع من التقدم الذي حققته دول أوروبا وأمريكا، متبنية ما يناسبها منها ومستبعدة الآخر، مع الحرص على الحفاظ على هويتها وتجنب الذوبان في النماذج الأجنبية.

كجزء من استراتيجيتها، استعانت اليابان بخبراء دوليين لتعزيز تطورها التقني والإداري؛ فقد تعاونت مع خبراء ألمان لتنظيم الجامعات والمدارس الجديدة، ومع مستشارين أمريكيين لإنشاء المحطات الزراعية والخدمات البريدية، بينما كُلف البريطانيون بمهمة تطوير شبكة السكك الحديدية. هذا التعاون الدولي كان حاسماً في مساعدة اليابان على بناء نظام تعليمي واقتصادي قوي، يوازن بين التجديد والتقاليد.

لم يكن حرص اليابان على استقدام الخبراء الأجانب محض إعجاب أو تقليد أعمى، بل كانت خطوة تتم وفقاً لاستراتيجية وحكمه لمواكبة التحديث دون نزع الثقافة اليابانية. فقامت بجلب هؤلاء الخبراء للاستفادة من خبراتهم المتقدمة، ثم بعد ذلك شرعوا في صياغة نموذج ياباني متفرد. جميع هؤلاء الخبراء كانوا تحت إشراف ياباني دقيق، وانتهت خدماتهم بمجرد أن شعر اليابانيون بأنهم قادرون على تولي المسؤوليات بأنفسهم.

سياسة إرسال البعثات التعليمية كانت دقيقة ومحكمة، تبدأ باختيار النخبة وتعطي الأولوية للكفاءة، وتنتهي بتطبيق التوصيات والنتائج على أرض الواقع. بعد عودة أفراد البعثة، يتم تعيينهم في مناصب عليا يمكنهم من خلالها تنفيذ ما تعلموه، مما أسهم بشكل كبير في دفع مشروع النهضة الياباني.

فعلى سبيل المثال، موري أرينوري، الذي كان جزءاً من البعثة التعليمية إلى إنجلترا في ستينيات القرن التاسع عشر، تولى منصب وزير التعليم بعد عودته، وكان أول وزير للتعليم في إمبراطورية اليابان. كان مفتوناً بالنظام التعليمي الجامعي الألماني وأسس المدرسة اليابانية الحديثة، فموري أرينوري بالتعاون مع إينوي كواشي، وضعا حجر الأساس للنظام التعليمي في إمبراطورية اليابان بدءاً من عام 1886، من خلال سلسلة من الأوامر التشريعية التي أسست نظام المدارس الابتدائية، المدارس المتوسطة، المدارس العادية، ونظام الجامعة الإمبراطورية. بمساعدة المستشارين الأجانب مثل الأمريكيين ديفيد موراي وماريون مكاريل سكوت، تم إنشاء مدارس عادية لتدريب المعلمين في كل محافظة، بينما تم توظيف خبراء مثل جورج آدامز ليلاند لتطوير مناهج دراسية محددة.

مع ازدياد الصناعة في اليابان، ارتفع الطلب على التعليم العالي والتدريب المهني. إينوي كواشي، الذي خلف موري كوزير للتعليم، أطلق نظام المدارس المهنية الحكومية وعزز من تعليم المرأة من خلال تأسيس نظام مدارس خاص بالفتيات. في عام 1907، تم تمديد مدة التعليم الإلزامي لتصبح ست سنوات، شهد عهد موري عهده تزايد نسبة المتعلمين وترسيخ للتعليم لليابانيين، ما أدى لارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية من حوالي 30% من السكان في سن الدراسة في سبعينيات القرن التاسع عشر إلى أكثر من 90% بحلول عام 1900.

خاتمة، إن هذه النهضة التعليمية في اليابان قامت على ثلاث ركائز أساسية: الاستعانة بخبرات العلماء والمعلمين الأوروبيين، ترجمة الكتب الأجنبية إلى اللغة اليابانية وإنشاء المدارس الحديثة، وإرسال بعثات تعليمية إلى دول أوروبا الحديثة لاكتساب المعارف الجديدة. مع ذلك، ما يبرز بوضوح هو قدرة اليابان على التوفيق المثالي بين التمسك بثقافتها وتقاليدها الأخلاقية وبين مواكبة ركب الحداثة. هذه المعادلة الفريدة من الحفاظ على الجذور مع التفتح نحو العالم الجديد لعبت دوراً حاسماً في تشكيل نظام تعليمي ياباني قوي ومتماسك، يعكس إرثاً عريقاً يسير جنباً إلى جنب مع الابتكار والتقدم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميمة بونخلة
طالبة باحثة في سلك الدكتوراه تخصص حوار الحضارات.
تحميل المزيد