في الأشهر الأخيرة، أصبحت قضية التجارة مع "إسرائيل" واحدة من أكثر القضايا جدلاً في تركيا، متحولة إلى جبهة صدام جديدة بين الخصوم التقليديين على المستويات الحزبية. بغض النظر عن دوافع الجدل، سواء كانت لنصرة فلسطين أو لمجرد المزايدة على الخصوم السياسيين، فقد شهد الشارع التركي ارتفاعاً في المطالب الشعبية والحزبية باتخاذ خطوات عملية لمواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة.
فأعلنت وزارة التجارة التركية الشهر الماضي تعليق جميع الصادرات والواردات من "إسرائيل". بعد فشل الجهود الدبلوماسية والتهديدات السياسية، ما دفع أنقرة لوضع تدابير اقتصادية كوسيلة للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإيقاف سلسلة الإبادة اليومية الذي يمارسها بحق الفلسطينيين في غزة. وقد قامت تركيا بالفعل سابقاً باتخاذ جملة من الإجراءات الاقتصادية ضد إسرائيل منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بما في ذلك تقييد تصدير بعض المنتجات إلى إسرائيل وإلغاء الخطوط الجوية التركية الحجز الإلكتروني المسبق لرحلاتها إلى إسرائيل، والإعلان عن تعليق خطط للتعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة.
إلا أن الضربة الاقتصادية الأكبر التي اتخذتها تركيا منذ بداية الحرب في قطاع غزة تمثلت في ذلك الإعلان لوزارة تجارتها الذي علق جميع معاملاتها التجارية مع الاحتلال بعد أن بلغ حجم الصادرات إليها 5.42 مليار دولار، ورغم أن هناك شركات تركية كثيرة يعتمد 80% من إنتاجها على التصدير لإسرائيل، والتي ربما تتضرر من استبعاد تركيا إسرائيل من قائمة الدول المستهدفة بالتصدير، أكدت أنها لن تتراجع عن قرارها إلا بعد ضمان تدفق غير متقطع وكافٍ للمساعدات الإنسانية إلى غزة.
في المقابل، جاء الرد من وزير مالية الاحتلال الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، كتهديد بأن الاحتلال سيلغي اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا وسيفرض رسوماً بنسبة 100% على الواردات التركية، حتى بعد انتهاء الحرب.
أشعل القرار التركي المفاجئ الصحافة الإسرائيلية بالتحذيرات والتحليلات كون تركيا بمثابة شريك تجاري حيوي، حيث توفر عدداً كبيراً من السلع الأساسية للحياة اليومية والعمليات الصناعية، فإن التوقف المفاجئ للصادرات يهدد بزعزعة استقرار سلاسل التوريد في إسرائيل، وهذا وفقاً لتقرير في صحيفة كالكاليست الإسرائيلية الاقتصادية.
بعيداً عن تداعيات الضربة الاقتصادية التي فرضتها تركيا، يُعتبر القرار الصادر عن وزارة التجارة التركية خطوة مهمة ضد الاحتلال، حيث أظهرت أنقرة استعدادها لتجاوز مبدأ "فصل الاقتصاد عن السياسة"، الذي كان يحكم العلاقات الاقتصادية بينهما. يعتبر هذا التطور خطيراً في العلاقة بين تركيا باتجاه الاحتلال، ويبرز توسعاً في سياسة أنقرة تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام.
منذ بداية الألفية، اتبعت تركيا استراتيجية براغماتية طبقتها في مجمل علاقاتها المتوترة خلال أكثر من عقدين، كما هو الحال مثلاً في الصدام الكبير مع مصر ودول أخرى، استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية مع هذه الدول بالنمو بمعزل عن التوترات السياسية الكبيرة.
بنفس النمط، شهدت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا وإسرائيل تحسناً ملحوظاً، حيث أصبح الاقتصاد أحد أهم الركائز في العلاقات بينهما. وقد تمايزت التبادلات التجارية بين البلدين بتزايد مستمر، حيث ارتفعت من 1.4 مليار دولار في عام 2002 إلى تقريباً 9 مليارات دولار في عام 2022. وعلى الرغم من وجود العديد من الأزمات السياسية، إلا أن العلاقات الاقتصادية المتينة بين الطرفين ساهمت في تجاوز تلك الأزمات بنجاح. على سبيل المثال، رغم أزمة سفينة مافي مرمرة في عام 2010 والتي كانت تسعى لفك الحصار عن غزة، وقتل 9 مواطنين أتراك حينها برصاص الاحتلال الذي اعترض السفينة، استمر التبادل التجاري بين البلدين بالنمو، حيث ارتفع من 2.5 مليار دولار في عام 2009 إلى 3.5 مليار في 2010، وواصل الارتفاع في 2011 ليصل إلى 4.5 مليار دولار.
في هذا السياق، تقول الباحثة الإسرائيلية غاليا ليندنشتراوس، والخبيرة في السياسة الخارجية التركية في معهد "دراسات الأمن القومي" بجامعة تل أبيب، إن "تركيا كانت حريصة جداً على عدم المساس بالتجارة الثنائية، وإبعاد الاقتصاد عن السياسة"، لذلك يُعتبر هذا القرار بقطع العلاقات التجارية اليوم، سابقة في التعامل مع القضايا السياسية عبر الاقتصاد.
لذلك، تعد القرارات الاقتصادية التركية التي اتخذتها ضد الاحتلال من أجل الحرب في غزة، بمثابة سابقة شديدة الاهمية، إذ تترافق أيضاً مع موقف دبلوماسي واضح و صدامية خطابية انطوت على محورين بارزين، الأول هو الدفاع المتكرر عن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بوصفها حركة تحرر وطني، والثاني هو الهجوم على "إسرائيل" ووصفها بأنها دولة إرهابية. وقد وصل الأمر إلى هجوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفاً إياه وأفعاله في غزة بأنها أفظع من أفعال الزعيم النازي أدولف هتلر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.