في توديعي اليومي لكل ما حولي، أصبح الوداع عادة مألوفة تماماً كشرب الماء، تتجلّى بشكل أعمق مع تصاعد وطأة الحرب وما تلقيه من ظلالها القاتمة على الضحايا المدنيين. هذا الهاجس المستمر بالفراق يرافقني من الفجر حتى الغسق، وعندما تجتمع العائلة وفي عمق مجلسنا، يخيّل لي أن كل لحظة قد تكون اللحظة الأخيرة. في تلك الأوقات، أختار أن أمكث لفترة أطول، حتى وإن كنت مجرد مستمعة، وداعاً لذكرياتي ولحياتي كلها في هذا البيت الذي يطارده شبح النزوح الإجباري.
منذ أكثر من 8 أشهر، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة حياة شديدة الهشاشة والاضطراب من نزوح إلى آخر، ومن تشرد إلى تشرد، حيث لا تزال الحياة على أرضهم مغمورة بالموت. الخسارة هائلة، أعظم بكثير من أن تُحصى أو تُسرد و أقسى من أن تروى. فهناك من دُفن دون أن يترك خلفه من يروي قصته؛ كيف لقي حتفه؟ هل كان مصاباً؟ هل مات بسرعة أم نزف حتى الموت؟ أو ربما كان أحد ضحايا الجوع القسري؟
منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بات نحو 10% فقط من الفلسطينيين قادرين على البقاء في منازلهم، ومعظمهم يقطنون في مدينة دير البلح. هذه المنطقة، التي تستثني المناطق الواقعة شرقي شارع صلاح الدين حيث تم تدمير البيوت والأحياء بالكامل، تُعد جزءاً من الشريط الساحلي الضيق المطل على البحر الأبيض المتوسط. قبل الحرب، كانت تُعرف هذه المنطقة في غزة بـ"المدينة النائمة"، حيث كان سكانها يميلون للنوم المبكر، مما يجعل المدينة تفقد نشاطها في وقت أبكر مقارنة بغيرها من مناطق أخرى في قطاع غزة.
لكن هذه الأحياء لم تعد كما كانت؛ إذ أصبحت الآن مزدحمة بشكل ملحوظ، وشوارعها تضج بحركة المارة، نتيجة الكثافة الكبيرة للنازحين في كل حي وزقاق. ومنذ اندلاع الحرب، أصبحت هذه المنطقة الملاذ الوحيد الذي حدده جيش الاحتلال باستمرار كمنطقة آمنة. لكن في حرب إبادة كتلك لا يوجد مكان أمن، فصارت دير البلح مثلها مثل باقي مناطق قطاع غزة، حيث لا تتوقف الغارات التي تستهدف أحياءها، مخلفة وراءها شهداء وجرحى، وتجريفاً كاملاً للمنازل في المناطق الشرقية؛ مما يؤدي إلى تشريد جديد للعائلات داخل المدينة نفسها.
الخوف من المجهول يُشكّل أكبر الهواجس لدى الباقين في منازلهم، وهم يشهدون بطش الاحتلال الساعي لتدمير ومحو كل شيء في قطاع غزة؛ إذ دمرت آلة الحرب الاسرائيلية مدينة غزة وشمالها، ثم تبعتها بخان يونس، وأخيراً مدينة رفح، التي استقبلت أكثر من مليون نازح من مختلف مناطق القطاع. كان سكان قطاع غزة يظنون أن رفح ستكون ملاذهم الآمن، حتى بدأ الناس يتناقلون أنباء عن ضرورة النزوح إلى رفح، باعتبارها مدينة ملاصقة للحدود المصرية والأكثر ازدحاماً بالنازحين، وقد دفع جيش الاحتلال جميع سكان المناطق التي تشهد عمليات عسكرية إلى التوجه إلى رفح، فنزح الناس إلى هناك، ظناً أن ربما تكون هناك جهود المؤسسات العاملة على تقديم الخدمات للنازحين، حيث اتخذت بعض المؤسسات الدولية من مدينة رفح مركزاً لتنفيذ مهامها.
لكن كعادة الاحتلال، لا يرى الفلسطينيون إلا أرقام قتلى ومهجرين تقدمهم سياساته العدائية. وبعد أن أنهى تدمير غزة، طارد المدنيين حتى رفح، مخلطاً رمالها بدماء ساكنيها. في هذه الأرض الصغيرة، استعرض جيش الاحتلال كل قوته، محرقاً النازحين في خيامهم في شمال غرب رفح، ليذكر الجميع بشغفه المتواصل لإراقة الدم الفلسطيني. هذا الاجتياح الهمجي للمدينة، بعد ثمانية أشهر من الإبادة، يأتي بنفس همجية بداية الحرب والتأكيد على أنها حرب إبادة.
فهؤلاء النازحون الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في خيام متهالكة، لم يسلموا حتى في المخيمات التي وُصفت بأنها مناطق آمنة. لم يكن ليخطر ببالهم غدر الاحتلال الذي أعدم الأمان حتى في ذلك الركن المفترض أن يكون ملجأ. الكثير من العائلات فقدت معيلها، والبعض تشتت بين اعتقال الأبناء وبقاء النساء وحدهن، وآخرون تُركوا مع المصابين دون أدنى إمكانيات لنقلهم إلى وسط القطاع، بعد أن أنهكتهم صواريخ الاحتلال وأحرقتهم داخل خيامهم.
كلنا في غزة الآن، باتت حياتنا تنحصر في احتمالات معدودة؛ بعد رفح، لم يتبق سوى المحافظة الوسطى، وعلى الرغم من أنها شهدت خلال الحرب توغلات محدودة، إلا أنها لم تشهد دخولاً برياً كاملاً، خصوصاً مدينة دير البلح. صدمة إخلاء رفح كانت كالصاعقة، وكأن شدة الحرب تعود لتبدأ من يومها الأول. بتنا ننام ونصحو على فكرة واحدة: أننا، آخر الباقين، سنكون هدفاً تحت أي حجة للانتقام، وبدأنا نعيش على حد فاصل بين الموت والحياة، حيث كل شيء تراه قد يكون للمرة الأخيرة.
أسرق بضع دقائق لأكتب، محاولة أن أرصّ كلماتي بجوار بعضها بصعوبة بالغة، دون أن أعرف حتى إلى أين سيتجه الاحتلال بعد رفح.. فهل هي النهاية؟! لا يمكن لأحد منا أن يقطع بإجابة مؤكدة، فمنذ بداية الحملة الإسرائيلية على غزة، ظل حجم الدمار والخسائر خارج نطاق التوقعات. خرج الناس من منازلهم في غزة والشمال ظناً منهم أن الأمر لن يستغرق سوى أسبوعين، لكنهم، للأسف، ومنذ ثمانية أشهر، يعيشون ويلات النزوح المتكرر وسط حرب الإبادة والتجويع دون استراحة من الألم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.