في مشهد طال اعتياده منذ السابع من أكتوبر تخرج علينا بعض الأبواق المحلية، في محاولة يائسة للدفاع عن تخاذل حكومات دولها والعالم أجمع تجاه المأساة الفلسطينية، لتكيل الاتهامات للمقاومة ملقية عليها اللوم فيما آلت إليه الأوضاع في غزة، وكأنها قد حرمت جموع الغزاويين من لذيذ العيش ورغد الحياة فيما قبل السابع من أكتوبر.
في مشهد آخر قبل أكثر من ألف عام، يعود "جساس بن مرة البكري" من قتال يوم "الواردات" أحد أيام حرب البسوس التي منيت بها قبيلته بمقتلة عظيمة قتل فيها أخوه "همام"، ليباغته في مضاربهم رسول من شيخ بني ضبيعة أبناء عمومتهم "الحارث بن عباد" بوثيقة وساطة من التي اعتاد أن يراسل بها أطراف المعركة بين الفينة والأخرى، وفي الوثيقة يلوم على جساس ما لحق بقومه من أذى يطلب منه أن يسلم نفسه بجريرة قتل كليب لتنتهي المعركة ويعم السلام بطون "وائل" مرة أخرى، عاذلاً إياه في تعكير صفو هذا السلام.
يبتسم جساس للرسول ابتسامة ساخرة مدارياً بها حنقه ثم يكتب لابن عباد:
"شيخنا الحصيف سيد بني ضبيعة الغائب في غياهب حب الحكمة وحلم السلام، كيف أمرك؟
وكيف النعامة؟ وكيف سيفك؟
لقد أطلت الغياب عن مغبة جارك، فخشيت أن يكون الهرم والخوار قد تسللا بين ثنايا أطرافك، فعدت لا تقدر على الحسام حملاً، أو تخلل الرعام روثة النعامة فأضحت لا تصلح لإغارة أو إجارة كما عهدناها تصلح في مجاراة السباق، وسيفك؟ أما زال محتفظاً ببريقه؟ ألم يصبه الكلل ويكسوه الصدأ من طول مكثه في غمده؟ إن سيوف جيرانك ما عهدت البريق منذ زمن، مخضبة بالدماء ما تنفك تبرد من نزال حتى شب لها قتال، وما فارق الهندي يد فارس تجندل في ساحة الوغى حتى نازع وريثه الأرض في التقاطه، فما انفكت يد رضيع لنا من ثدي مرضعته حتى التأمت سيف حميمه، مدركاً جل إرثه من ثأر يوجب العزة والمنعة والصمود.
نرى فرسانك في الجوار كل صباح على تخوم مضاربنا شاهدي عيان على كل مجزرة وكل مصيبة تحل بنا، هؤلاء الذين كانوا فيما مضى يبعث رؤية اصطفافهم بالأمان والطمأنينة أصبح يبعث بالريبة والخزي والقلق، وصرنا لا نأمل منهم منعة ولا نرجو منهم جواراً بل صار جل أملنا أن يظلوا على الحياد، ونرجو كل ما نرجو أنها حينما تتجرد من غمدها لا تدركها حكمتك وحنكتك في إدارة المواقف فتكون علينا لا على عدونا.
أراك بالغت في حكمتك وتريثك وانزوائك، تقول: "حرب لا ناقة لك فيها ولا جمل"؟ بيد أنه لك فيها أبناء عمومة أصابهم الضجر مما لحق فيهم من ضيم وظلم وحصار وأذى!
لقد رأيتك التزمت الصمت حين حوصرنا في مضاربنا لا نجير ولا نوقد النار ولا نحمي الذمار إلا بإشارة منه، على مشهد ومسمع منك كنت لا تستطيع أن تغيث بني عمومتك في نكباتهم بقوافلك الرمزية سوى بإذن منه.
أم أراك سكت حين هُجِرنا للذنائب بعد أن منعنا من "شبيث" و"الأحص" حتى كدنا نهلك عطشاً! كنا ظمأى جوعى هلكى مهجرين من حي إلى حي ومن مورد إلى مورد، وما نلبث أن نضرب خيمة حتى فككناها إلى مضرب أبعد، أكُتب علينا التهجير والرحيل أبد الدهر؟
تلك المضارب التي تركناها مضاربنا وتلك الأحياء والآبار والمراعي كلها كانت لنا، لم يحكم فينا بقانون القبيلة ولا بشرعة عرفتها العرب والعجم قبل ذلك فنستجيب له أو نحاججه بها، إنما حكم فينا بعواء جروه! عواء جرو كاد أن يهلكنا من الظمأ، لم يكن لنا ملكاً كان جباراً ليس له أية حجة، لم نبايعه لم نختره، ارتضيناه بشريعة الأمر الواقع مجبرين مكرهين راغبين في أي أمل في الحياة، استدرجنا من اتفاقية لأخرى، ومن معاهدة لأخرى، كان ضامنه سيفه وكان ضامننا كلمة شيوخ القبائل الذين أنت واحد منهم، فماذا أغنت عنا وعن سلامنا كلماتكم وضماناتكم؟
كان خزياً أن سايرنا "كليباً" وحيدنا سيوفنا منذ اللحظة الأولى فكان حتماً ما ابتدأ بكلمة شيخ أن ينتهي بعواء جرو.
حسناً لا تحسبني الغوي المبين من شيعة موسى الجالب لقومه سوء عاقبة كان يمكن تفاديها، ليكن كما تدعي حكمتك فعلت فعلتي إذاً وكنت أنا الجاني فكانت الناقة في جواري أنا على كل حال، لكن ما ذنب هؤلاء الأطفال القتلى والجرحى الجائعين المنهكين أتراهم ثأر "كليب" أيضاً؟
أترى استباحة تلك الدماء في خيام المصابين حقاً مشروعاً للمهلهل؟ كم قتيلاً من هؤلاء الأطفال والنساء تنتظر حتى يستوفي المهلهل ثأره؟ ثم ها هو كلما حدثته شيوخ القبائل حاججهم باليمامة وانزوى وبكى وأكثر العويل عند قبر كليب، لقد تيتمت فينا ألف يمامة لم يكن آباؤهم جبارين ككليب ولم يكونوا بغاة ولم يكونوا فرساناً أيضاً، كانوا مجرد آباء يأملون في رعي بعض الشاة والإبل ليأتوا صغارهم بفخار من اللبن مساءً تروِ ظمأهم وتسد جوعهم.
لم يكن الواحد منهم بعدل كليب واحد، بل بعدل ألف كليب، فلم يكن له جناية على غيره ولم يستبح حمى غيره كان يطمح في العيش الكريم الآمن فقط لا غير، اليمامة لا ترى لكليب ألف عِدل، فهو أبوها، والزير لا يرى له كل قبائل العرب عدل فهو أخوه، وأنت؟ أترى الآلاف من بني قومك لا يعدلون ثأر رجل من قوم لا تساوي أنت ولا عشيرتك حتى شسع نعل لأخيهم؟
فلتعِ قولي إذاً نحن أبناء عمٍ لثعلبة وبكر نحن الأحق بصلتك، مصيرنا واحد وعدونا واحد لا يميز شيبانياً من قيسي، كلنا عندهم لبكر.
أراك ترسل الوفود والعروض بأن أسلم نفسي وتنتهي الحرب ويعمنا السلام، هب أنني فعلت، أحقاً تراها ستنتهي؟ أترى ذلك كافياً ليرضي "المهلهل" جنونه وغروره ويغسل عاره أمام "تغلب"؟ وما ضامننا إذاً؟ كلمتك وكلمة الشيوخ! أتصدق ذلك! كم مرة يجب أن نقع في ذات الفخ حتى ندرك أن سيفنا هو ضامننا الوحيد؟
إن حرباً لم يسلم منها "همام" ولا أي رجل من أبناء مرة لن تسلم غداً منها لا أنت ولا ولدك "بجير"، فلا تغرنك تلك المهادنات ولا كلمات السلام معهم، إنهم يطلبون إبادة بني شيبان اليوم وغداً يطلبون بني قيس، كلنا من بكر كلنا مطمع لهم، هم فقط ليسوا جديرين بأن يعيشوا بمعزل عن بطون وائل كلها وإلا هلكوا أو ما طاق عامتهم العيش فارتحلوا، هم ما اجترأوا علينا إلا بكم وما تجبروا إلا بعد أن دانت لهم قبائلنا بالولاء، فما كان ليصبح "كليب" ملكاً إلا بمملوكين منا، وإن "الأحص" ما كان ليمنعنا منه لولا أن هادناه في "شبيث"، فلتعقل الأمر جيداً أيها الشيخ، إنني ما أحدثك في إبلي بل في إبلك، ولا في ولد "بني مرة" بل في ولدك، ولا في ثأري بل في ثأرك، إن قوماً حكموا عواء جروٍ في مشاربنا ليسوا بأهلٍ للتفاوض أو التعقل.
وها أنت الآن وجنودك وفرسانك على مرأى ومسمع من بضع أقدام، تظن أن قوميتك تنتهي عند حدود مضاربك وتخوم مضاربنا، تشهد حرباً ستصلى لظاها اليوم أو غداً وما يجعل تأخيرها لغد سوى المزيد والمزيد من آلاف القتلى اليوم، وتقول لا ناقة لك ولا جمل! بل إنني إذ طعنت طعنتي كنت أدفع الأذى القادم الذي كان سيطول إبلك وحماك، وإن بني شيبان اليوم ما هم إلا حجرة عثرة في طريق هؤلاء إليك، فاحذر ثم تيقن بأننا نقاتل الآن في حربنا وحربك على السواء.
تقولون من أعز من وائل؟ كما الأشياء تعرف بضدها لم يعرف له عز إلا بذلنا، ذلك الحمى الذي حماه واستأثره لنفسه كان حمانا، ومواقع السحاب التي حماها منع بها غيث السماء عنا، فحاصرنا أرضاً وسماءً، كان عزه بظمأ إبلنا وأنين أطفالنا وذل رجالنا.
تتساءل العرب من أعز من وائل؟ أنا أجيب؛ نحن أعز من وائل، نحن قهرنا وائل الذي لا يقهر، كسرنا شوكته قرب الذنائب، أذقناه من بعد عز ذلاً، طرحناه أرضاً واستسقانا الماء، تصور كليب يعقل استسقاء الماء! لكننا لم نروِ ظمأه، فقط انصرفنا وتركناه مضرجاً في دمائه عاراً يلاحق تغلب يوماً بعد يوم لن تغسله دماء الأطفال والنساء ولا حتى الفرسان، فنعم حمينا جارنا ومنعنا ذمارنا وقتلنا الباغي علينا وإن كان في الأمر هلاكنا فلسنا نادمين على ذلك.
"أَلا أَبلِغ مُهَلهِلَ ما لَدَينا *** فَأَدمُعُنا كَأَدمُعِهِ غِزارُ
بَكَينا وائِلَ الباغي عَلَينا *** وِشَرُّ العَيشِ ما فيهِ غِيارُ
وَنَحنُ مَعَ المَنايا كُلَّ يَومٍ *** وَلا يُنجي مِنَ المَوتِ الفِرارُ
وَكُلٌّ قَد لَقي ما قَد لَقينا *** وَكُلٌّ لَيسَ مِنهُ لَهُ اِصطِبارُ"
– أبيات لجساس بن مرة البكري –
تعقيب
تعتبر حرب البسوس من ملاحم السير التي تجلت فيها الشخصية العربية بوضوح بكامل وبمختلف انفعالاتها، والناظر فيها تصيبه الحيرة والتعجب من قوة مواقف أطرافها، فما يميز الشخصية العربية خصوصاً في السير والملاحم المتوارثة هو حدة العاطفة ووضوح وصدق الانفعال وتفاني العربي في ترجمة تلك العاطفة لأرض الواقع. دَعَّم كل ذلك الموروث الأدبي للأطراف المختلفة وشهادتهم الشعرية على أحداث المعركة، من وصايا كليب، ورثاءات المهلهل وأشعار جساس وبكائيات الجليلة ومراثي الحارث وغيرهم من أطراف الملحمة، فكونت ملحمة أخرى من المفاخر والمراثي، بالإضافة أيضاً إلى السير الشعبية التي بالغت في تصور أبطال أسطوريين يبنون قصوراً من جماجم السباع ويطلبون الثأر فيبيدون القبائل ويدفعون البغي فيجندلون الملوك ويوفون بالعهد فيعفون عن واترهم ويتحلون بالصبر، فكان المشهد الكلي للأحداث منبعاً صافياً وأرضاً خصبة لاستخراج الصور والتشبيهات المثالية واستخلاص الحكم والأمثال ومطابقتها على مواقف لاحقة أمثال "أعز من كليب" و"المستغيث بعمرو عند كربته كالمستغيث من الرمضاء بالنار" و"أشأم من البسوس" و"لا ناقة لي فيها ولا جمل" وغيرها.
ولعل في العصر الحديث كانت لتلك الملحمة تأثيرها الملحوظ على الأدب المعاصر كمحاولة للإسقاط على الواقع المرير في بلداننا، ففي مسرحيته "حرب البسوس" قدم علي أحمد باكثير رؤيته الإصلاحية للحرب الدائرة حول مجرد ناقة، والتي لا طائل منها بين أبناء العرب وقد أنهكت قواهم وبددت فرسانهم في الوقت الذي تتعرض فيه قبائلهم لخطر داهم من العدو الخارجي، والتي كانت الحرب نتيجة للفتن المدبرة من يهود يثرب بإيعاز من أعداء الخارج من الروم بغرض تفريق جماعة العرب وتبديد كلمتهم فيما بينهم فتسهل هزيمتهم، لقد تمثل باكثير في حرب البسوس رمزاً للخلافات والأزمات الداخلية بين البلدان والأنظمة العربية في وقت هي في أمس الحاجة لتلك القوة في مواجهة قوى الاستعمار في بلدانهم وقوى الاحتلال في فلسطين المنكوبة.
لكن واحدة من أشهر وأفضل الأعمال الأدبية التي تناولت الأمر بإسقاط على الواقع المعاصر المرير في مجموعته الشعرية "أقوال جديدة عن حرب البسوس" لأمل دنقل والتي تضمنت رائعته قصيدة "لا تصالح"، والتي تحدث فيها بلسان كليب يوصي أخاه المهلهل بطلب الثأر وعدم التهاون في أخذه وعدم نسيان دم أخيه أمام دعوات التصالح المائعة، يقول أمل دنقل عن تلك المجموعة:
(حاولت أن أقدم في هذه المجموعة حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة رؤيا معاصرة، وقد حاولت أن أجعل من كليب رمزاً للمجد العربي القتيل أو الأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود للحياة مرة أخرى، ولا ترى سبيلاً لعودتها إلا بالدم، وبالدم وحده).
وعلى شدة العداوة بين أطراف الملحمة إلا أن ثراءها وتعقيدها الدرامي أتاح لباكثير في فترة ما ترميز جميع الأطراف أبناء العرب كإخوة في وطن واحد تحيطهم الأخطار والمكائد من عدو آخر، وأن حربهم كجادع أنفه بيده مستنداً في ذلك أغلب السياق على حكمة الحارث بن عباد، فقد أتاح أيضاً ثراؤها وتعقيدها الدرامي لدنقل في فترة أخرى أن يستخلص معاني الأخوة والثأر والوفاء للمجد العربي القتيل من وصايا كليب.
وهنا أتمثل في جساس رمزاً للمقاوم الثائر المخذول أول خذلانه ممن يقاوم عنهم، والمعذول في عدوه وظالمه والمتجبر عليه.
في القصة الحقيقية تحقق رجاء "باكثير" واصطلح الحيان نهاية المطاف، حتى إنهما اشتركا فيما بعد معاً في تحرير ابنة المهلهل أحد الأطراف المحورية في الملحمة.
وفي القصة الحقيقية أيضاً تحقق رجاء "دنقل" وبالفعل خاصم المهلهل في ثأر أخيه خصاماً لم تشهد العرب مثيلاً له قط، وصار مضرباً للأمثال.
وفي القصة الحقيقية أيضاً تحقق ما أرجوه، وثأر الحارث نهاية المطاف، وجمع بطون بكر حوله، وحسم المعركة لصالح قومه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.