تليق به الشهادة ويليق بها، إذ لطالما كان قلبه معلّقاً بالآخرة متشوفاً إلى ما عند الله فيها، فقد "كان رجلاً من أهل الآخرة". هذا ما يمكن أن أصف به أخانا الشهيد أبا عمرو، شرحبيل السيد رحمه الله تعالى، الذي ارتقى شهيداً، بإذن الله، إثر استهدافه من طائرات العدو الإسرائيلي في البقاع اللبناني يوم الجمعة 17/ 5/ 2024. لم أرَه، رحمه الله، إلا وهمّ الدين يُقرأ في جبينه، وذكر الله يجري على لسانه، ونشر الدعوة يأخذ منه جلّ وقته وكلّ اهتمامه وتخطيطه.. كان جندياً في هذه الدعوة وتلك هي حاله، وأضحى قائداً مقدّماً بين إخوانه دون أن يغيّر ذلك شيئاً من سلوكه أو أخلاقه، أو همّه واهتمامه.
البدايات المشرقة
عرفته في أوائل تسعينات القرن الماضي، ولم يكن بيننا وقتها إلا دروس الدّين وصلاة المسجد ودعوة الشباب والحرص على الخير. والعلاقة التي تكون لله تبقى ولا تموت.. لم تكن الدنيا همّه، ولا السعي خلف حطامها شأنه، وهو الذي كان فيها عزيز النفس كريم السجايا، يده مبسوطة للعطاء ونفسه نقيةٌ لا تعرف البغضاء.. متسامحٌ طيب القلب نقي السمات، سامٍ عن اللغو والرفث وقول السوء وفعل القبيح. لا أذكر أني رأيته مغضباً يرفع صوته دون اتّزان، ولا مقهقهاً يذهب الضحك بهيبته وما يعلو جبينه من هدوء ونقاء ووقار. يتعامل مع الصغار بروح المحب الحاضن، ومع الكبار بعقلية الأخ الناصح. كان بيته منذ عرفته ملتقى الإخوان ومجالسِ علمهم وذكرهم، نذهب إليه ونأنس به، فيستقبلنا بحب ويقوم، مع أهله، على خدمتنا بفرح. ما تأفّف يوماً من لقاء، ولا تأخر عن عمل، بل كان رحمه الله من أكمل إخواننا خلقاً، وأنقاهم نفساً، وأصفاهم سريرة، وأكثرهم تواضعاً، وأطيبهم لساناً، وأنبلهم سلوكاً.
طريق الآخرة
السير في طريق الآخرة طويلٌ وموحش، تعترض السائر فيه تحدّياتٌ وعقبات، وتواجهه مخاطر ومشكلات، لكنّي كنت أرى أبا عمرو وقد حدّد هدفه وضبط بوصلته، فهو يسير باتجاهِ مراده دون التفات، وكأنّي به، وقد عرف طول الطريق ومشاقّه، فأعدّ عدّته وحمل زاده، وسار غير هيّاب دون التفات، "إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة"، يمارس الجندية في أيّ موقع كان. شهدته، وقد اختاره إخوانه لمنصبٍ رفيعٍ تتشاوف إليه نفوس الضعفاء، فما تغيّر ولا تبدّل، بل ظلّ أبا عمرو الذي نعرف، في خدمته لإخوانه، وحرصه عليهم، واهتمامه بدعوتهم، والسعي في مصالحهم، اللهم إلا أنّه بات أكثر حرصاً واهتماماً ومتابعة. كنت أراه تجسيداً عملياً لقولة أستاذنا البنا رحمه الله: "ونحب أن يعلم قومنا أنّهم أحبّ إلينا من أنفسنا، وأنّه حبيبٌ إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزّتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمناً لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء.." وما شهادته رحمه الله إلا شهادةٌ على صدق انتمائه وولائه والتزامه ومساره.
همّ الدّين والدعوة
لم تشغله هموم الحياة عن الاهتمام بالدين، ولا صرفته شؤونها عن همّ الدعوة وفلسطين، بل كانت الآخرة همّه، فجمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة. شهدته في مواطن كثيرةٍ، في قضايا الدين والدنيا، فرأيته في تجارة المواشي أيام الأضحى، لا يسأل عن الثمن، ولا يقف عند الربح، حيث الهمّ تحقيق العبادة لا تعزيز مصدر الرزق. وكذلك كان، رحمه الله، في كرم الضيافة حين يدعونا إلى منزله أو نجلس معه في مكان عمله. ولا أنسى ما كان يخبرني به ابني عنه من حسن استقبال له ولرفاقه حين يذهبون إلى مسبح الوسام، الذي سعى مع إخوانه لاستثماره في الدعوة، حيث يدخلهم دون استيفاء البدل المالي، المرة تلو المرة، لمجرد معرفته أنّه ابن من يظنّ به الخير. كان هذا تقديره للدّعاة وحرصه على الدعوة وعنايته بالجيل، وموقع الدنيا من قلبه واهتمامه.
تواضع الكبار
ما كان يأنف من طلب العلم فيما هو به عالم، ولا طلب الرأي وهو المطّلع الدارس. زارني منذ وقتٍ غير بعيدٍ مع بعض الأخيار، متجشّماً العناء، يطلب رأيي في مسائل، كنت أعلم علم اليقين أنّه قد أشبعها مع إخوانه بحثاً، وكذلك كنت أراه حين يدعوني لإلقاء درسٍ أو تقديم موعظة، يجلس مستمعاً، فيشعرك وهو الأستاذ أنه عندك يتتلمذ. هكذا هم الكبار، تتعلم منهم بسلوكهم في الحياة، وبصدق التوجه بعد الممات..
الخاتمة المباركة
يعلم الله أنّني لم أستغرب نبأ استشهاده، وقد وقع عليّ الخبر كالصاعقة، فتلك هي الخاتمة التي تليق بمن كنت أراه ملائكي الصفات، رباني السمات، صحابي القدوات.. وليس مستغرباً أن تكون عائلته على ذلك المستوى الرفيع من صدق الولاء وعظيم الرضى ووثيق الصلة بالله، فها هي زوجته الصابرة المحتسبة تتحدث عنه بعد استشهاده، فتقول: "الحمد لله، قضى نحبه، لكنّنا على طريقه، وعندنا يقينٌ بنصر الله الأكيد، ولن نبدل ولن نقيل أو نستقيل عن أشرف طريقٍ وأغلى سبيل". ثمّ تتحدث ابنته فلا تزيد على الدعاء له بكلّ رضا واطمئنان، وصبرٍ وتسليم، دون أن تنسى التأكيد على أنّه الطريق الذي لا طريق غيره: "وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد"، ثمّ تعلّمنا ابنته الكبرى أنّ هذه المعاني هي ما تربّوا عليه في البيت منذ نعومة أظفارهم: "حبّ فلسطين والجهاد من أجل تحريرها"، مع الثقة بالعودة إلى صفد موطن الأجداد، وكذلك قال ابنه وأخوه، وأهله ومحبوه، فطوبى له هذه التربية والبناء، وهذا الحبّ والوفاء، وهذه الخاتمة وحسن الاصفطاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.