المرء مولع دون شك بكل ما هو غريب ومخفي، ويتطلع كل حين إلى معرفة ما يخبئ الزمان له، وبضمن ذلك الحديث عن التخطيط والتدبير الذي يمارسه البعض من أجل إحكام السيطرة والهيمنة على الغير.
ودرج استخدام عبارة (نظرية المؤامرة) للحديث عن تصور سلبي غير واقعي ووقع في فخ الآخر واستلاب الإرادة، والعيش في وهم التحقق لخيالات غير منطقية، وتبريرات تمنح الضعفاء والواهنين بعضاً من العزاء، للمضي والبقاء ولو تحت وطأة الظلم والعنت وشظف العيش!
على أنني لمست بعضاً من النوايا المضمرة والمسكوت عنها في تفاصيل هذا العنوان الكبير المتضمن للكثير من التفاصيل والجزئيات والمنحنيات غير المتساوية والتي تحتاج إلى فهم خاص وتأسيس لاحق نرجوه.
فمثلاً: مع التسليم بوجود التضخيم والزيادات المقصودة وغير المقصودة، هل ينفع اليوم إلغاء التفكير بما يجري بذريعة أن الحديث وفق هذا المنطق أو ذاك إنما هو وقوع في فخ نظرية المؤامرة؟!
ذلك أن التعميم والإفراط في نفي المؤامرة جعل البعض ينفي في ضمن ذلك عملية جمع الأفكار وشتات الأحداث في بوتقة واحدة تمنحها تفسيراً علمياً ومنطقياً أكثر مقبولية، فكأننا نرسخ ودون أن ندري قاعدة أن العرب والمسلمين إنما تحركهم عواطفهم ويقل فيهم أثر العقل والعلم والقراءة، وهم أمة (اقرأ)!!
ولو انطلقنا من القاعدة الراسخة بأنه لا شيء يجري اليوم في محيطنا وحياتنا دون سبب، وأن الحاضر هو نتاج الماضي، وغدنا سيكون مصداق فهمنا ورؤيتنا اليوم، والمآلات التي نشكو هي نتاج التراكمات المنطقية المؤدية إلى سوء الواقع وغياب الارادة وتقييد الواقع الراهن ووهن الفكر والتصورات، إذا امتلكنا ذلك الفهم أمكننا التحول من ضفة المؤامرة إلى المعرفة اليقينية الراسخة.
لا يمكن اليوم إهمال مئات المؤشرات والبيانات والتلميحات بحجة نظرية المؤامرة، ولا يجب أن نغلق الفكر بأقفال من حديد أكله الصدأ ونرمي بالمفتاح في بحر لجّي ليس له قرار.
ولو نظرنا إلى كل ما يحيط بنا اليوم لوجدناه تعبيراً لتخطيط دقيق ومشاريع دولية ضخمة قامت على أساس التآمر والاتفاقات الخفية، فهل يعد ذلك الإيمان تعبيراً عن سذاجة وضعف وتسليم سلبي وامتناع عن امتلاك ناصية التغيير المطلوبة؟!
ألم تكن قضية فلسطين نتاج مؤامرة دولية كبرى سارت بخطوات ومراحل محسوبة ومتفق عليها ومعبرة عن فهم عالمي يضع مصلحة الكيان الغاصب في مرتبة الخطوط الحمراء الممنوع الاقتراب منها أو تجاوزها؟
ألم تكن عملية احتلال العراق وإسقاط نظامه السياسي ــ مهما اختلفنا مع منهجه دون شك ـ نتاج تخطيط وتدبير بث الأكاذيب لتبرير ما حصل ولغايات بعيدة المدى ما زلنا نعيش آثارها، ليس هذا فحسب بل التأسيس للمشروع برمته عبر توظيف حالة الطيش والرغبات الحالمة بزعامة العالم لصالحه على نحو يثير العجب؟!
أليس النفاذ المريب إلى المجتمعات وشريحة الشباب ومداعبة أحلامهم وسلخهم عن هويتهم وعقد الصفقة الماكرة البائسة بمنح فتات أحلام الترف والنعيم مقابل الإيمان والدين، أليس ذلك تدبيراً محكماً يقتضي الانتباه قبل فوات الأوان.
إن إعادة الاعتبار للفكر الإنساني وإطلاق سراحه للتدبر فيما يحيط به ليس إلا استجابة مطلوبة ولازمة وليست مؤامرة فارغة المحتوى والمعنى بأي حال من الأحوال، وهو ما يحول الوهم إلى معرفة والخيال إلى قاعدة منطقية يمكن استخدامها والركون لها علمياً وباطمئنان.
وما لم نرجع التوهج لمكانة مراكز البحوث المتخصصة، والدراسات الرصينة المخلصة، ونوظف كل الفهم المتراكم اليوم دون استعمال أو اهتمام حتى، ما لم نحقق ذلك كله لن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.