هذا العام، احتفل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمرور 75 عاماً على تأسيسه. تأسس الناتو في الرابع من أبريل عام 1949 في واشنطن، كاستجابة مباشرة للسياسات التوسعية للاتحاد السوفييتي آنذاك. منذ ذلك الحين، نما عدد أعضائه من 12 دولة إلى 32 دولة اليوم.
من المفارقات أن الحرب في أوكرانيا كانت من أبرز العوامل التي عززت وحدة الحلف، حيث ساعدت على تركيز وجوده في شرق أوروبا. هذا التحول جاء بعد فترة من الوهن والضعف عصفت بالحلف، ووصلت حد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له بأنه في "حالة موت سريري". رغم ذلك، لا يمكن القول بأن جميع أعضائه باتوا اليوم على قلب رجل واحد، إذ لا تزال هناك خلافات بارزة بينهم، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.
العلاقات الأوروبية – الأمريكية.. جذور عميقة ومستقبل متقلب
تعود جذور العلاقات الأوروبية الأمريكية إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. قامت الولايات المتحدة بدعم إعادة إعمار أوروبا من خلال مشروع مارشال، وساهمت في تعزيز الأمن الأوروبي عبر تأسيس حلف الناتو ودعمه. كما دعمت واشنطن وحدة أوروبا من خلال قوة الناتو والتي ساهمت في تشكيل الاتحاد الأوروبي. نتيجة لذلك، وصلت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى أقصى مدى، حيث تمثل اقتصادات الطرفين ثلث التجارة العالمية في السلع والخدمات، وما يقارب ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حيث القوّة الشرائية. أصبحت الولايات المتحدة اليوم أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي.
بعد انتهاء الحرب الباردة، تبنّت الولايات المتحدة استراتيجية مزدوجة في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بصفته شريكاً وخصماً. حيث دعمت واشنطن تكامل الاتحاد الأوروبي على المستوى الاقتصادي، بينما ثبّتت نفسها كضامن للأمن الأوروبي، حتى بعد زوال الخطر السوفييتي، ما أدى إلى إضعاف القرار السياسي الأوروبي وعرقلة محاولات تشكيل قوة أوروبية موحدة أو جيش مشترك، رغم الدعوات المتكررة لذلك.
وقد عجَّل احتدام الحرب في أوكرانيا في ظهور هذه التبعية بشكل أوضح، حين برزت الخلافات بين فرنسا وألمانيا داخل البيت الأوروبي الواحد التي لا تقف عند تباين نماذج وطريقة حل الأزمات لدى البلدين بشأن كيفية حماية اقتصادات دول الاتحاد؛ بل تعدى ذلك إلى الرؤية الشاملة للاتحاد وسيادته. فبينما تدعو فرنسا لفكرة السيادة الأوروبية والابتعاد عن التبعية الأمريكية وحلف الناتو (الميّت سريرياً)، كما وصفه ماكرون، تنظر ألمانيا بشكل أكثر براغماتية في سياستها من خلال عقد التحالفات والاتفاقات.
أصبحت التبعية الأوروبية للولايات المتحدة واضحة بشكل خاص خلال الحرب الأوكرانية – الروسية التي اندلعت في فبراير من العام الماضي، واليوم تتضح أكثر من خلال موقف أوروبا الداعم لأمريكا وإسرائيل. على الرغم من أن الوقوف بجانب الاحتلال الإسرائيلي ودعمه في مجازره بحق الفلسطينيين يكلف الاتحاد الأوروبي الكثير على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلا أن هذه التبعية تستمر. فعلى المستوى السياسي، بدأت دول داخل القارة العجوز تأخذ توجهاً سياسياً مخالفاً لتوجه الاتحاد الأوروبي. فقد أعلنت أيرلندا وإسبانيا والنرويج رسمياً الاعتراف بدولة فلسطين، في حين أبدت دول أخرى مثل سلوفينيا ومالطا اعتزامها اتخاذ خطوة مماثلة. يمكن اعتبار هذه التحركات ثغرة في الجدار الأوروبي الموحد، ما يعكس تنامي الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء بشأن القضايا الدولية.
على المستويين الاجتماعي والاقتصادي المتشابكين، فبنظرة سريعة للمظاهرات التي تملأ شوارع أوروبا، حيث يعبر المهاجرون والكثير من المواطنين الأوروبيين عن رفضهم للسياسات الداعمة لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، تواجه أوروبا نقصاً في الأيدي العاملة، ما يجعلها بحاجة ماسة إلى المهاجرين الشباب الذي يقف أغلبهم اليوم مع فلسطين، هذه الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية تضع الاتحاد الأوروبي في موقف معقد، إذ تتراكم الخسائر التي قد لا تكون واضحة الآن، لكنها تنتظر يومها لتظهر بشكل جلي.
كل ذلك، يؤكد على كم التحديات الكبيرة التي تواجه الاتحاد الأوروبي في محاولته للحفاظ على وحدته واستقلالية قراره السياسي، في ظل التبعية المستمرة للولايات المتحدة.
وبالعودة للحرب في أوكرانيا، فروسيا لم تكن حتى الأمس القريب العدو المعلن لأوروبا، كما هي الحال بالنسبة للولايات المتحدة التي تضع روسيا بوتين في رأس التهديدات الاستراتيجية لأمنها القومي.
لذلك، يمكن اعتبار الحرب الأوكرانية كارثة استراتيجية للقارة الأوروبية، حيث دمرت أي آمال أوروبية متبقية للوصول إلى استقلال استراتيجي حقيقي، وأخضعتها للولايات المتحدة ووضعتها في أضعف حالاتها منذ الحرب العالمية الثانية. فبغض النظر عن نتيجة الحرب الأوكرانية، من الواضح أن أوروبا، وبالأخص أوروبا الغربية، قد خسرت. فبلغة الأرقام وإلى اليوم فقد أنفقت كل من واشنطن وبروكسل أكثر من 200 مليار دولار على الحرب، وهو رقم بقياسات الأمس يتجاوز تكلفة خطة مارشال بأكملها التي أعادت بناء أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
في شهر فبراير/شباط الماضي، وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 54 مليار دولار، بعد أشهر من معارضة المجر. وبالتوازي مع ذلك، تزداد نسبة الأصوات التي تحصل عليها الأحزاب المشككة في جدوى الحرب في استطلاعات الرأي، بسبب انزعاج المصوّتين من حدة أزمة غلاء المعيشة التي تفاقمت مع الحرب والعقوبات الغربية على روسيا. إن كل هذه التطورات تعكس مدى ضبابية الوضع الأوروبي الحالي، حيث تجد أوروبا نفسها في موقف حرج، بين التبعية للولايات المتحدة والضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.