الأطروحات الأكاديمية الأدبية في ميزان النقد

عربي بوست
تم النشر: 2024/05/30 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/30 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش

حين نطالع الأطروحات الأكاديمية يجب أن نضع في حسباننا أنها تأسَّست على قواعد منهجية، نُوقشت من خلالها مسائل علمية في مجالٍ ما، بإشراف أساتذة في ذلك المجال، يُفترَض فيهم الاختصاص والخبرة والامتياز، وينبغي أن تكون هذه الأطروحات جاءت برافدٍ علميٍّ جديدٍ في مجالها يُضاف إلى المخزون السابق، ووفقاً لهذه التأسيسات يوجَّه النقدُ إلى ما وقع من تقصيرٍ. 

وحين نتكلم عمَّا يتعلق بمجال الأدب من هذه الأطروحات؛ نجد في بعضها خللاً في التطبيق، إن لم يكن في التَّناول بشكلٍ عام، وحين نخصُّ الأطروحات التي تناولت الشِّعر تحديداً؛ نجد ما يَندَى له الجبين؛ من أخطاءٍ يستحق بعضها أن يوصف بالعبث البيِّن والهراء الواضح؛ حيث يرتبط هذا (البعض) بمقوِّمات الشعر من وزن وقافية ورويٍّ وغيرها؛ فقد لوحظ أن البيت من الشعر في بعض هذه الأطروحات يتحول إلى كتلة من الأخطاء؛ لجهل الباحث أو الباحثة بمقوِّمات الشعر وضوابط قراءته، ثم يُنسَب البيت بصورته الجديدة إلى الشاعر وهو منه بَراءٌ، والأمر لا يعدو كونه نقلاً مصحَّفاً أو محرَّفاً، إما أنه وقع من الباحث نفسه، أو أن الباحث تابَعَ عليه غيره، ومِثل هذه الأخطاء وغيرها مما يقع بكثرةٍ في بعض الأطروحات الأكاديمية؛ تأتي نتيجة عدم مراعاة الدِّقَّة عند إسناد هذه الأطروحات إلى الباحثين؛ فالشِّعر عِلمٌ فريدٌ له مقوِّماته وأدواته التي يختص بها دون غيره من العلوم، وقديماً قال ابن سلَّام الجمحي [ت: 232هـ] في كتابه "طبقات فحول الشعراء": "وجدنا رُواة العلم يغلطون فى الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله"، وابن سلَّام يتكلم عن علماء القرن الثاني وأوائل الثالث الهجري، وقد أعقَبَ كلامه بذكر أمثلةٍ، فكيف يكون الخَطْب مع إسناد أطروحات تتعلق بتحقيق الشعر وشرحه ونقده؛ إلى باحثين مبتدئين وليسوا من أهل الشعر أصلاً؟! ومما يزيد الأمر سوءاً أن كثيراً من الأساتذة الذين يشرفون على هذه الأطروحات ليسوا من أهل الشعر أيضاً!

وكما هو واقع فإن الدرجة العلمية التي يحصل عليها الباحث بعد إجازة أطروحته، تُعد مفتاحاً له -ليس فقط لإجازة ما يكتبه في هذا المجال- بل لقبول ما يجيزه أيضاً، فإذا كان هذا المجال له طبيعة خاصة؛ كالشِّعر؛ فلا ينبغي أن تُسنَد أطروحاته إلَّا إلى باحثين تتوافر فيهم مقوِّماته وأدواته. 

وحتى لا يطول الحديث يمكن أن نحصر الموضوع في جانبين اثنين حول هذه الأطروحات الأدبية بشكل عامٍّ والشعرية بشكلٍ خاصٍّ، على النحو الآتي:

أولاً: مزايا هذه الأطروحات: 

– إن عملية البحث والاستقصاء ومنهجية التوثيق، التي تهتم بها الأطروحات بشكلٍ عامٍّ؛ وضعت أمامنا مادة موثَّقة، يمكن تتبُّعها والإفادة منها في معالجة ما وقع من أخطاء في هذه الأطروحات، وكذلك الإفادة منها في تناول مسائل علمية أخرى.

– كما أن الشمول والحصر الذي تقوم عليه الأطروحات في بعض الجوانب؛ قد جمع الشَّتات المبعثر فيما يندرج تحت الباب الواحد أو المسألة الواحدة، فقدَّم لنا مادة يمكن أن تشكِّل ظاهرةً تستحق التناول من خلال أبحاث ودراسات جديدة.

– الأطروحات التي تطبِّق المنهج الصحيح وتستند إلى مادة علمية صحيحة؛ يمكن أن تكون نواة لدراساتٍ أخرى يَنْبني عليها مزيد من التنظير والتطبيق حول الموضوع نفسه أو ما يتفرَّع عليه.

ثانياً: عيوب هذه الأطروحات: 

أما العيوب التي نراها في بعض الأطروحات التي تتناول الشعر دراسة وتحقيقاً ونقداً ونحو ذلك؛ فيمكن إجمال أهمِّها فيما يأتي:

– التصحيف والتحريف؛ وذلك بسبب جهل الباحث بمقوِّمات الشعر وضوابط قراءته كما سبق ذكره.

– إغفال بعض المسائل المهمة وعدم التعرض لها أو التعليق عليها؛ كالتصريع الوارد أحياناً في حشو القصيدة، إذا أخلَّ بالوزن -حيث إن تكرار التصريع في القصيدة الواحدة له ضوابط- وأيضاً التحريد وهو ورود أكثر من ضربٍ في القصيدة أو المقطوعة الواحدة، ونحو ذلك مما يقع فيه بعض الشعراء -ولا سيَّما المعاصرون- أو يرِد في بعض روايات الشعر القديم؛ حيث يمرُّ ذلك في كثير من الأطروحات دون التعرض لشيء منه؛ لعدم انتباه الباحث إليه أو معرفته به.

– أخطاء الشُّروح؛ التي تَنتج عن أخطاء فهم المعنى العام للنصِّ الشعري كاملاً أو لِموضع الشاهد، وكذلك الخلط بين معاني المفردات الشعرية، أو الدوران في التناول حول المعنى الظاهر وإغفال دور الدلالة والسياق والقرائن الأخرى التي تفيد في فهم الشعر وشرح معانيه.    

– إغفال بعض الظواهر المهمة التي تتشكَّل فيما يجمعه الباحث من شواهد شعرية وشُرُوحٍ وآراء نقدية حول موضوع أطروحته، التي قد تقل أهميته كثيراً بجانب هذه الظواهر التي تكون أحياناً أولى بالبحث والدراسة من موضوع الأطروحة.

– الإسهاب المفرط في تناول جوانب ثانوية، قد تكون لها أهميتها في البناء العام للأطروحة، لكنها عديمة الجدوى في نسيج الموضوع نفسه.

– العشوائية في النُّقول أحياناً، وهو الأمر الذي قد تنتج عنه أخطاء في العزو، إضافة إلى عدم صحة الاستشهاد ببعض تلك النُّقول ابتداءً؛ لعدم مناسبتها للموضوع، وكذلك تصرُّف الباحث في بعض النُّقول وتوجيهها إلى ما يصبُّ في صالح إثبات فرضيَّات دراسته ولو كانت على خلاف ذلك.

– الاعتماد على بعض النظريات والمعلومات المغلوطة أحياناً، وقد يكون ذلك مصحوباً بمحاولة التأصيل لها وإثبات صحَّتها، عمداً أو جهلاً.

وينبغي العلم بأن التغاضي عن هذه الأخطاء، قد جعل مرتكبِيها يعتقدون أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، وأنهم مؤهلون للعمل في تحقيق ودراسة الشعر والأدب، فأقبل كثير منهم على ذلك الأمر، حتى نتج عن ذلك وجود مئاتٍ من دواوين الشعر القديمة التي حقَّقها هؤلاء، تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لإزالة ما ألحقوه بها من فسادٍ بسبب قلة علمهم وانعدام خبرتهم الفعلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تناولتُ في أبحاثٍ سابقةٍ لي، نماذج من أعمالهم، وبيَّنت ما وقع من فساد تحقيقهم، وما أغفلوه من ظواهر علميةٍ بسبب قلَّة علمهم وعدم انتباههم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسن الحضري
عضو اتحاد كتاب مصر
كاتب مصري
تحميل المزيد