تدخل حرب غزة بعد أيام ليست ببعيدة شهرها التاسع، دون أن يحقق جيش الاحتلال الإسرائيلي، رغم الدعم المادي والعسكري الضخم من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، الأهداف التي حددتها حكومته، وهي القضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة. كما لم تنجح القوات الإسرائيلية في تحرير الأسرى المحتجزين في غزة.
تكبدت إسرائيل خسائر تتجاوز 65 مليار دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من الحرب. أصبح قطاع السياحة شبه معدوم، وأفلست مئات الشركات وأغلقت أبوابها. بات قطاع البناء مشلولاً بعد حظر العمالة الفلسطينية من الضفة الغربية وغزة. ميناء إيلات شبه مغلق، وتم تسريح معظم العاملين فيه. المستوطنون في غلاف قطاع غزة ومنطقة الجليل المحاذية للحدود مع لبنان، الذين يزيد عددهم على 100 ألف، فروا بعيداً عن ساحة المواجهة. ما يقرب من نصف مليون شخص ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية، وربما جنسيات أخرى، رحلوا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها، لأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان في الاراضي المحتلة.
وأخذ الاستثمار الأجنبي في الأراضي المحتلة يتراجع بسرعة، حيث يبحث رأس المال عن المكاسب فقط، حتى وإن كان أصحابه يؤمنون بأفكار مؤسسي دولة الاحتلال. فقدرة الردع الإسرائيلية، التي ساهمت في حمايتها ورسم هالتها الأسطورية خلال الـ75 سنة الماضية، تداعت بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، و الهجوم الإيراني في أبريل/نيسان الماضي. بالإضافة إلى ذلك، ازدادت عزلة تل أبيب الدولية بشكل غير مسبوق، خاصة بعد حكم الإدانة من محكمة العدل الدولية، وطلب كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
في ظل هذه الظروف، يتعرض الاحتلال لضغوط داخلية وخارجية متزايدة، مما يضعف موقفه الاستراتيجي والسياسي. تترافق هذه التطورات مع تهدم صورة الاحتلال أمام المجتمع الدولي، وتصاعد الدعم للقضية الفلسطينية. رغم ذلك، ومع كل تعثر لحكومة الاحتلال، تصر على تقديم مبررات وتهديدات للعالم الذي بات ينحاز للحق الفلسطيني، ويهدد بمزيد من القصف والتدمير، بينما يصدر لداخل خطابات عن سراب إنجازات، كل ذلك بالتوازي مع شعور متجذر بأن خسارة معركة غزة ستكون بمثابة بداية عودة الأرض لأصحابها حيث يسترد الفلسطينيون أراضيهم وبيوتهم ووطنهم المسلوب.
على جبهة الاحتلال، يسود التخبط بين القادة والساسة، إذ لا يخرجون بشيء جديد سوى رؤى ضبابية واستمرار آلة الحرب الاستعمارية دون أي أفق سياسي. في هذه الأثناء، تتكبد قوات الاحتلال خسائر متزايدة من المقاومة، مما يدفعهم إلى ارتكاب مجازر بحق المدنيين في محاولة يائسة لإرهاب العالم وإظهار قوتهم الوحشية.
خلال الأسبوع الماضي، نقلت القناة الـ13 الإسرائيلية عن رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، تصريحاً يعكس الفشل الذريع: إسرائيل لم تحقق أياً من أهداف حربها على قطاع غزة. هنغبي أوضح أنهم لم يتمكنوا من القضاء على حماس، ولم ينجحوا في توفير شروط لإعادة الأسرى، ولم يتمكنوا من إعادة مستوطني غلاف غزة إلى منازلهم بأمان. وأشار إلى أن الجيش يرى أن تحقيق أهداف الحرب يتطلب سنوات عدة وليس سنة واحدة، وأن مجلس الحرب لم يحدد أي هدف واضح بالنسبة لشمال إسرائيل، ولم يضع تاريخاً أو أهدافاً استراتيجية محددة.
تتصاعد الانتقادات الموجهة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بسبب عجزهما عن تحقيق الأهداف المعلنة للحرب. هذا الفشل لم يقتصر على المستوى العسكري فحسب، بل امتد ليشمل تآكل الثقة الداخلية والدولية بالحكومة الإسرائيلية، وتفاقم العزلة السياسية، مما يضع الاحتلال في موقف حرج أمام المجتمع الدولي المتزايد دعمه للقضية الفلسطينية.
مع بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وبعد أقل من شهر على انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، نقلت عدة تقارير عن متحدثين مختلفين أن المقاومة في قطاع غزة -وفي مقدمتها كتائب القسام- تتمتع بقدرة كبيرة على تعطيل القوات الإسرائيلية من خلال تكتيكات حرب العصابات في المناطق الحضرية. بينما أشارت مصادر إلى أن الحركة استعدت لحرب طويلة وممتدة في قطاع غزة، وتعتقد أنها قادرة على عرقلة تقدم الاحتلال الإسرائيلي لفترة كافية لإجباره على الموافقة على شروطها ووقف إطلاق النار.
بينما ذكرت وكالة رويترز وغيرها من المصادر، أن حماس تمتلك عتاداً وأسلحة وصواريخ وإمدادات طبية تمكن مقاتليها، الذين يقدر عددهم بنحو 40 ألف مقاتل، من مواصلة المقاومة لأشهر عدة باستخدام شبكة واسعة من الأنفاق المحصنة. هذه الأنفاق، التي يبلغ طولها مئات الكيلومترات ويصل عمق بعضها إلى 80 متراً تحت الأرض، بنيت على مدار سنوات طويلة وتمثل ميزة استراتيجية كبيرة للمقاومة.
تلك التوقعات والتكهنات أصبحت اليوم واقعاً ملموساً بعد مرور ثمانية أشهر من الحرب دون أن تتمكن القوات الإسرائيلية من هزيمة المقاومة، التي لا تزال تكبد الاحتلال خسائر كبيرة وتأسر جنوداً أيضاً. هذا الوضع يؤكد أن حماس قد أعدت نفسها جيداً لحرب استنزاف طويلة، مستفيدة من بنيتها التحتية المعقدة والموارد المتاحة، مما يجعل الحل العسكري بعيد المنال ويعزز من موقف المقاومة في أي مفاوضات مستقبلية.
تشير الطبيعة المتغيرة للحروب إلى أن أنماط وطبيعة الفاعلين تؤثر في الأدوات والتكتيكات المستخدمة فيها. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تفرض حروب المدن أو الحروب غير المتكافئة مزيداً من القيود على استخدام أو توظيف الأسلحة الثقيلة، خاصةً إذا ما كانت بين قوات نظامية وعناصر ميليشياوية، وذلك لعدد من الاعتبارات، منها عدم وضوح خطوط الصراع، والخشية من خسارة الجنود عندما يتحركون على الأرض بعيداً عن حماية الدروع.
كتب ديفيد بيتز من كينغز كوليدج لندن واللفتنانت كولونيل هوغو ستانفورد-توك في دورية تكساس للأمن القومي: "على مدار التاريخ تقريباً، كان الجنرالات يكرهون احتمال القتال في المدن وسعوا إلى تجنبه". ومع ذلك، فإن الجيوش الحديثة تجد نفسها مضطرة بشكل متزايد لخوض حرب المدن، مستفيدة من تجارب الماضي للحصول على التوجيه والتفكير في أفضل الطرق لاستخدام الأسلحة الحديثة في هذا السياق.
بينما أكد الجنرال مارك ميلي، الرئيس العشرون لهيئة الأركان المشتركة الأمريكية، في خطاب ألقاه أمام الأكاديمية العسكرية الأمريكية عام 2023، على ضرورة التأقلم مع حرب المدن، محذراً من أن هذا النوع من القتال سيغير الجيوش بشكل جذري، مما ستكون له "تداعيات هائلة" على كل شيء من أنماط التمويه والأسلحة إلى تصميم المركبات والخدمات اللوجستية.
تشتهر حرب المدن بوحشيتها وتدميرها. توفر المناطق المبنية الكثير من الأماكن للإختباء، مما يؤدي إلى مواجهات مفاجئة وعلى مسافة قريبة. يمكن أن تكون المباني مليئة بالألغام والشراك الخداعية، مما يجعل الحاجة إلى التنبه المستمر تؤثر في أعصاب الجنود. يشبه القتال في الأدغال أو الغابات صعوبات مماثلة. يقول العقيد المتقاعد بيتر منصور، الذي قاد اللواء الأول للفرقة الأمريكية المدرعة الأولى في بغداد عام 2003: "يمكن أن يستهلك مبنى واحد كتيبة كاملة (ما يصل إلى 1000 جندي) في قتال ليوم واحد".
إن عدم قدرة الجيش على شن حرب مدن بنجاح يمكن أن يكون له آثار نفسية ومعنوية خطيرة على الجوانب العملياتية والاستراتيجية، وحتى السياسية، للصراع. وهذا ما نراه اليوم في غزة، حيث يتكبد الاحتلال خسائر كبيرة بسبب الصعوبات والتحديات التي تواجه قواته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.