كل شيء نفتقده نجده على الشاطئ، من بقايا الحياة التي كنا نحياها هنا، لم يبقَ سوى البحر على سالف عهده، ماء وهواء نقي وصورة وهمية ومؤقتة عن الأمان، مرتبطة بمزاج الزوارق الحربية الإسرائيلية العائمة قبالة الشاطئ، منذرة بهجوم محتمل.
بعد مُضي أكثر من سبعة شهور من الحرب على غزة، لم أجرؤ على الاقتراب من شاطئ البحر، هو ذاته الطريق البحري الذي أسلكه يومياً ذهاباً وإياباً للعمل، قريب جداً من منزلي لكنه أمسى بعيداً جداً، باتت تفصلنا حواجز من الخوف والعجز، وطرقات تقاس بالأميال، قرار استغرق مني الكثير من التفكير لأتجه غرباً نحو بحر مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
خطوت باحثة عن حيوات قديمة كنت أعرفها جيداً، تعرفت خلالها على حياة تعاش في الحرب، متمثلة في صرخات الأطفال التي تحاول اختراق أصوات الموجات مداعبة أوجاعهم، وذلك الشاب بصحبة فتاته الجميلة، يفترش الأرض بقماشة تفصلهما عن رمال الشاطئ، هذا المجلس الخاص على الشاطئ أسعدني وأعاد لي ذكرى الحب الذي يهبها البحر لحكايتنا ومشاعرنا الصادقة الحزينة والسعيدة منها.
براد، بزر، قهوة… أصوات الباعة حاضرة على الشاطئ، مشهد وكأنه قديم جديد، يخيل لي أنه من زمن مضى ربما صيف لم تشهد به غزة حرباً، أقدم بكثير من أعوامي الـ29، حبيبات الرمال الحائرة على الشاطئ تتراقص مع فتية يتمايلون على أنغام الدحية (رقصة تراثية بدوية)، إنهم فتية نازحون مشردون يعيشون لحظات لهو على نغمات الموسيقى بلحن الشاطئ ونسيم هوائه.
لعل الطمأنينة في وجوه البعض مبعث لي بأن هناك أملاً باستمرار الحياة هنا، لا تبتعد كثير عنا تلك الباخرة الأمريكية المثيرة للشفقة أكثر منا بكثير، نحن هنا نبحث عن البقاء في وطن هو لنا، وهم لم يتركوا لنا أي سبيل للعيش، لكنهم جادون جداً في استغلال كل وسيلة لإبادتنا بقدر جديتنا بالبقاء، هذا الصبر منزوع الخيارات حيث لا معابر مشرعة لاستقبال لاجئي الحرب كما هو بكل مكان بالعالم.
إن المشاهد وإن كانت قاسية على الشاطئ تبدو أقل إيلاماً، تنتهي كل الحكاية عندما يتجه رأسك نحو المدينة، خلفك البحر وأمامك الحرب بخيامها ونازحيها وويلاتها في زوايا الأحياء البائسة، لتنبعث لك انعكاسات كل ما كان مرافقاً لك في رحلة حكتها وصدقتها ولكنها ليست حقيقية بالكامل، فبحر الحرب هو ملجأ للحائرين، والباحثين عن أرواح غائبة عن العيون، ربما يجدون آثارها بين زحام الجالسين على الشاطئ.
"ملجأ من لا ملجأ لهم"، في مراكز الإيواء، المنازل والخيام، جميعها ممتلئ ولا توجد مساحة حتى للحديث بين أفراد العائلة، يقصدون البحر في أفضل الخيارات لجلسة قد تبدو منعزلة وخاصة، لتناقش فيها قضايا العائلة العالقة في زحام الإيواء، محاولين بعثرة القليل من الغضب والسخط الناتج عن فقدان البيت والأمان.
يلجأون للبحر للاستحمام، وغسل ملابسهم، وللوضوء، بعد أن وقفوا طويلاً في طوابير المياه، ولكن نفدت كمية المياه قبل أن يصلهم الدور، هكذا هو النزوح، يبني بداخلك شيئاً من شعورك بالتشرد، لا شيء أريده يحمل ذات المعنى حتى البحر، اختلفت مقاصد زيارته.
الشريط الساحلي لقطاع غزة ضيق جداً خاصة بعد أن أجبر سكان مدينة غزة والشمال للتوجه جنوباً، ومن سكان مدينة خان يونس التوجه لمدينة رفح، ومن ثم تصل الوقاحة والعنجهية بأن يُطلب من سكان مدينة رفح التوجه لمدينة دير البلح، يمكننا القول إن سكان قطاع غزة يحاصرون في منطقة لا تبلغ 10% من مساحته الإجمالية، وكيف هو البحر إذن.
البحر أصبح مخيماً تفترش الخيام شاطئه، وهي المساحة الأرضية الوحيدة الفارغة والملجأ الأخير ولكنها للأسف لن تكفي، وقوات الاحتلال الإسرائيلي تقوم بتوسيع العمليات العسكرية بمناطق جديدة وتطلب من السكان مغادرة هذه المناطق، إلى أين سيذهب المواطنون في غزة، وكم مرة سيعيشون النزوح؟!
على طول خط شارع الرشيد الساحلي الضيق، تمتد معسكرات من الخيام من مواصي مدينة خان يونس لشاطئ دير البلح شمالاً، هنا فقط البحر هو الشاهد على إبادة غزة، لم تتبق مشاهد لم تتصدرها شاشات العالم، ربما هناك اتفاق محكم على قتلنا ولكن نحن توّاقون للنهاية، لأن الحياة في أيام معجونة بالموت هي أقسى من الموت بحد ذاته.
من سيبقى ليقص الرواية عن قتل الأموات وترحالهم، إن أكثر ما يثير مشاعر الغزيين المشهد الختامي لهذا الحرب الملعونة، وبأي شكل سينتهي إعدام المدن على رؤوس ساكنيها، بعد ثمانية شهور من النزوح والترحال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.