يعتبر المغرب بلداً فقيراً من حيث مصادر الطاقة الأحفورية كالفحم والغاز والبترول، فالبلاد تستورد أكثر من 96% من حاجاتها من هذه المواد من الخارج، الأمر الذي أثر سلباً دائماً على ميزان المدفوعات واستنزف موارد الدولة باستمرار وسبب لها مشكلة قاتلة ألا وهي الفقر الطاقي.
إلا أن فقر المغرب لهذه المصادر عوض أن يكون فرصة تفتح بصيرة المسؤولين والحكام بهذا البلد على ضرورة التفكير جدياً في معالجة هذه المعضلة من أساسها وابتكار حلول ذكية لها. أمر لم يحدث للأسف الشديد فظل المغرب مرتهناً للخارج في مسألة الطاقة، بل وانخرط في مشاريع عرجاء للتجديد الطاقي دُبّرت بليل وظلت نتائجها متواضعة رغم البهرجة الإعلامية التي رافقتها.
التأسيس البائس لقطاع الطاقة بالمغرب
في الحقيقة تأسس قطاع الطاقة والتصنيع في المغرب في بداية الاستقلال بشكل حكيم بل وشجاع مع حكومة عبد الله إبراهيم، حيث أُسست مصفاة لاسامير ومصانع أخرى في قطاعات أخرى. فالمصفاة الوحيدة بالبلد والتي تم وأدها (جريمة لاسامير) أُنشئت في بداية الاستقلال وقد كان الاستثمار الإيطالي حاضراً فيها بقوة وكانت من المصافي الكبرى في أفريقيا وتنتج أو تعالج كل حاجيات المغرب من المحروقات وتصدر فائضها في السوق الدولية. أين نحن من ذلك الإنجاز؟ لقد ذُبحت وخُربت تلك المصفاة التي كانت تعتبر قاطرة من قاطرات الاقتصاد الوطني وبأبشع الطرق بل وتم التمثيل بجثتها وسحق عمالها بطريقة جبانة تنمُّ عن الفساد والفشل للسياسيين الذين يعيثون فساداً في البلد.
تعتبر عملية تصفية المصفاة البترولية الوحيدة في المغرب نموذجاً للخيانة في أبشع صورها، خيانة وطن عنوانها خصخصة مؤسسة رابحة وذات أداء ممتاز بحجة لا علم لنا بها، بعد ذلك يأتي الشريك الأجنبي لتخريب الباقي وتدخل في نفق القضاء والتواطؤ والتعطيل الممنهج ومسلسل من الخزي والعار في بلد فقير طاقياً أليس هذا هو الحُمق بعينه؟ إذا كان هناك معنى آخر للحمق فحتماً ستكون تصفية لاسامير جزءاً منه.
إذا كان قطاع تصفية البترول وإنتاج مختلف أنواع المحروقات ومشتقات النفط قد سُحق لفتح المجال أمام شركات التوزيع الجشعة لتسيطر على السوق الوطني، ولتصبح دجاجة تبيض ذهباً للنخب السياسية والاقتصادية الفاسدة والتي لا تعير أي اهتمام للنمو الاقتصادي للبلد ولا للرفاه العام للمجتمع.
نخب لا يهمها إنتاج كهرباء رخيصة للقطاع الصناعي لأنها ببساطة لا تعرف القطاع الصناعي ولا تشتغل فيه أبداً فكل استثماراتها تهم قطاعات المضاربة والعقارات غير المنتجة والتي يمكن اعتبارها طفيلية بامتياز لا تخلق أي قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني، وهي قطاعات تتميز بدورة ربحية سريعة كباقي القطاعات المضاربة فالخونة مستعدون دوماً للهروب ولا يريدون التورط في الاستثمارات الصناعية الثقيلة ذات الدورة الربحية الطويلة أو المتوسطة.
إن تحويل سوق الطاقة المحلي من خدمة الشعب والاقتصاد الوطني إلى قطاع استراتيجي للنهب والاحتكار ومراكمة الأرباح الفاحشة لعصبة من الإقطاعيين المسنودين من الخارج جريمة لا تغتفر.
فإن قطاع الغاز الطبيعي قد دبّر بنفس الجهل والغباء، وإن استفاد المغرب من حصص مرور الغاز الجزائري عبر الأنبوب المغاربي للوصول إلى أوروبا فإن التوترات السياسية بين المغرب والجزائر والتي يتحمل فيها نظاما البلدين كل المسؤوليات، حيث بنت الجزائر خطاً آخر يصلها بإسبانيا مباشرة عبر البحر، وبالتالي استغنت عن تجديد أي اتفاق مع المغرب وهذا يعتبر ضربة حقيقة للاقتصاد الوطني نظراً لسعي الجزائر للضغط على المغرب منافسها الإقليمي الوحيد بالمنطقة، هذا الأمر شكّل ضغطاً قوياً على تدبير مسألة الطاقة بالمغرب وزاد من تبعيته وهشاشة وضعه بشكل مقلق للغاية.
من المفهوم ما يحدث من قبل الرباط بالنظر للمشاكل العويصة وللتنافس الشرس والغبي بين البلدين، لكن ليس من حق المسؤول المغربي الخطأ في تقدير الموقف، وبالتالي القرار الجزائري كان متوقعاً منذ 6 إلى 10 سنوات قبل وقوعه، أي منذ الشروع في إنجاز الخط البحري نحو إسبانيا، لكن فشل المسؤولين المغاربة وتدبيرهم لموضوع حساس مثل الطاقة تدبيراً يومياً كأننا في العصر الحجري جعل البلد يزداد غرقاً في مشكلة الطاقة.
كل هذه المصائب عوض أن تفتح عيون المسؤول السياسي على الحلول الصارمة والنهائية والجذرية للمشكل الطاقي، تراهم يلهثون في كل اتجاه وراء كل خيار تافه وينسون القرارات الشجاعة والخيارات الصعبة والعقلانية. إن مسألة الطاقة بالنسبة لأي دولة هي مسألة حياة أو موت، أي أن النجاح فيها يعني الرخاء والتقدم والازدهار والبحبوحة، والفشل فيها يعني التقهقر والتخلف والقلاقل التي لا تنتهي بالتفكك بل بالاندثار التام. وهذا لا يحتاج لأي دليل فتجارب السويد والنرويج مع بناء السدود وإنتاج كهرباء رخيصة أو تجارب فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية مع الطاقة النووية كخيار مثالي وحاسم ساهم في ازدهار هذه الأمم أمثلة لا يسع المجال لسردها في هذا النص.
إغفال ومماطلة غريبان في اللجوء للخيار النووي
من أكبر الأخطاء التي اقترفها المسؤولون بالمغرب إغفالهم الذهاب بسرعة نحو الخيار النووي وتماطلهم الغريب غير المشروع حول هذا التوجه. في الوقت الذي تسارع الدول لبناء مفاعلاتها النووية رغم الاستغلال البشع لحادثة فوكوشيما لتنفير الناس من هذا المصدر الطاقي النظيف والرخيص.
فها هي دولة بنغلاديش تدشن محطتها النووية من مفاعلين نوويين بنتهما شركة روساتوم، وها هي تركيا تسارع الزمن لإكمال بناء أربع مفاعلات مع نفس الشركة الروسية وتخطط لبناء 8 مفاعلات أخرى، كما تبني الهند 8 مفاعلات والصين أكثر من 20 مفاعلاً أخرى، بينما تبني روسيا 6 مفاعلات، ومصر تبني 3 مفاعلات على ساحل البحر المتوسط قرب مدينة الضبعة. كوريا الجنوبية ذات المساحة الصغيرة (تقريباً مثل جهة الشرق) والتي تمتلك 25 مفاعلاً نووياً مُشغلاً ومُنتجاً شَرعت في بناء 3 مفاعلات نووية أخرى جديدة لزيادة إنتاج الكهرباء الرخيصة للقطاع الصناعي المتنامي.
لماذا الخيار النووي هو الأفضل والأصلح؟
تطوير الطاقة النووية أمر حتمي وضروري وحيوي ولا يجب السكوت عن الحديث عنه حتى تُبنى محطة بأربع مفاعلات على الأقل ويجب أن ندرك أن تكلفتها اليوم تتراوح بين 23 و25 مليار دولار وهذا مبلغ فلكي وضخم لكن يستحقه المشروع، كما أن التكاليف تتزايد سنة بعد أخرى والظروف الجيوبوليتيكية تتغير باستمرار ونحن نعتقد أن المغرب تأخر كثيراً في هذا الأمر.
المغرب بحاجة لطاقة كهربائية غزيرة ورخيصة لتحريك النشاط الصناعي بالبلد لأن القطاع الزراعي في طور الانهيار والتدهور بسبب نقص وتقلب التساقطات المطرية، وعليه فإن تطوير الطاقة النووية سيوفر الكهرباء لتحلية مياه البحر لتزويد المدن الكبرى بالماء الشروب الذي يتعسر الحصول عليه اليوم من المصادر التقليدية كالأودية والسدود. وعليه فإن تطوير قطاع الطاقة النووية أمر حيوي ولا يمكن تجاهله ويجب تعبئة كل موارد الدولة من العملة الصعبة لإنجاز هكذا مشروع.
المغرب يحصل على اليورانيوم ويمكنه تخصيبه محلياً وبالتالي تحقيق الاستقلال الطاقي.
ومن بين الامتيازات الكبرى التي يمكن للخيار النووي أن يحققها للمغرب هو تحقيق السيادة الطاقية، فالبلد يتوفر على رواسب اليورانيوم بكثرة مع معدن الفوسفات ما سيمكنه من التأسيس لعملية تخصيب اليورانيوم لتلبية حاجات مفاعلاته النووية وهذا سيكون بمثابة قبلة الحياة لتحقيق السيادة الطاقية فالمفاعلات تعيش لعمر 30 أو حتى 40 سنة أو أكثر ومع تواجد اليورانيوم محلياً ستكون حلقة الاستقلال الطاقي اكتملت، وهذا يعني إنتاج كميات هائلة من الكهرباء يمكن تصدير جزء غير يسير منها واستغلال الباقي لتحريك القطاع الصناعي المراد توسيعه وتشجيعه ليكون بديلاً عن القطاع الفلاحي المنهك بسبب إكراهات المناخ وأخطاء البشر الكارثية.
أما إذا كانت دوائر القرار بالرباط تريد بناء دولة حقيقية قوية وصناعية بلا منازع فعليها التفكير في بناء محطتين نوويتين كل واحدة بأربعة مفاعلات يعني 8 مفاعلات في المجموع. وهنا نقترح موقعين لبناء المحطات النووية: المحطة الأولى بموقع أقرمود قرب الصويرة على ساحل الأطلنتي فهي منطقة قليلة السكان نسبياً وقرب أهم المناطق الاستهلاكية الكبرى على الساحل الشمالي الغربي. أما المحطة الثانية وبهدف تحقيق العدالة المجالية وتوزيع المحطات وإبعادها عن التجمعات الكبرى للسكان نقترح موقع بن خليل جنوب طانطان دائما على ساحل البحر لتوفير مياه التبريد للمفاعلات النووية.
قد يتقافز الكثيرون لرفض توطين المفاعلات النووية بحجة خطرها على السكان، لهؤلاء نقول إن الكثير من الدول ومنها فرنسا، واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها ذات المساحات الضيقة والمجالات الكثيفة السكان تجد العديد من المفاعلات المبنية بالقرب من تجمعات حضرية ضخمة ولا يطرح ذلك أي مشكل خاصة مع مراعاة معايير السلامة أثناء البناء، أما المغرب فقليل السكان أصلاً وبه مجالات شاسعة شبه فارغة منها تلك المقترحة أعلاه ستكون مكاناً مناسباً لبناء هذه المحطات.
هل الطاقات المتجددة (الشمس والرياح) خيار جيد؟
نعم خيار جيد، لكن بشرط التحكم الكلي في التكنولوجيا وتوطينها محلياً وتأسيس شركات عملاقة لصناعة مختلف المكونات من البطارية لشفرات المراوح، للتوربينات، للألواح الشمسية… إلخ مما تستلزمه تلك الطاقات، غير ذلك سنكون مجرد مرتهنين للخارج في كل شيء ونتحول من الارتهان للبترول والغاز إلى الارتهان للبراغي والألواح الشمسية والتوربينات والبطاريات وغيرها من مستلزمات الطاقات المتجددة وهي بالغة التعقيد وغالية ومردوديتها محط تساؤلات عميقة وغير منتهية.
إن الاعتماد على الطاقات المتجددة وحدها يعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب ناهيك عن كونها لن تستطيع أبداً أي الطاقات المتجددة أن تنتج كهرباء رخيصة للقطاع الصناعي الذي نفترض توسعه. لذلك يجب الوقوف عن هذه التوجهات غير المجدية فوراً، واستبدالها بمقاربة تعتمد على اعتبارها عنصراً مكملاً للخليط الطاقي للبلد في حدود معقولة يجب ألا تتجاوز 20% وتركيز باقي الجهود على إنتاج كهرباء رخيصة بالطاقة النووية والأحفورية فهي الأقوم لتحقيق إقلاع صناعي. كما يجب الاستثمار بقوة في مصانع تنتج عناصر وتكنولوجيات الشمس والرياح مثل صناعة ألواح شمسية وتوربينات الرياح وغيرها.
مهزلة الخضوع للسياسات المناخية وتبنيها
تعتبر قضية التغير المناخي نموذجاً صارخاً لكيف يريد القلة استعمال العلم لإخضاع البشر والحجر عليهم وفرض توجهات راديكالية وقاتلة للتنمية والتطور الصناعي للدول والشعوب بحجة الحفاظ على الكوكب، فدوائر القرار الغربية وأذرعها المحلية تزمر ليل نهار بحجية التغير المناخي وهو حق أريد به باطل، أي أن تغير المناخ واقع وحقيقي لكن مسؤولية البشر تبقى محل نزاع وصراع وتجاهل حتى من قوى صناعية كبرى كالصين والهند والبرازيل وروسيا بل وحتى الولايات المتحدة نفسها. فلماذا علينا نحن في المغرب البلد الفقير طاقياً أن نتحمل تبعات تغير المناخ؟ هل ننتج من غازات الدفيئة ما تنتجه الصين أو الهند؟ طبعاً لا، ماذا نمثل أصلاً في إنتاج غازات الدفيئة؟ لا شيء، إذن لماذا يتقافز المسؤولون المغاربة وأذرعهم الإعلامية للتأكيد كل يوم على تبني خيار الطاقات النظيفة وحماية المناخ؟
يصعب الجواب على ذلك، لكن المؤكد هو ارتهان القرار الرسمي المغربي للمؤسسات المالية الدولية التي تفرض أجندات النخبة الأوليغارشية المالية العالمية التي تقف أصلاً خلف محاولة استعمال شماعة المناخ لإخضاع البشر والحجر عليهم في إطار التوجه العام العالمي نحو عودة الأنظمة الشمولية على الطراز الصيني.
إن السير في مسار حكاية حماية المناخ وبالتالي الاقتصار على الطاقات النظيفة لم ولن يؤدي أبداً إلى ازدهار الاقتصاد الوطني، بل سيدخلنا في دوامة أخرى من التبعية للقرارات التي تتخذ في عواصم أوروبا وأمريكا ولن يمكن المغرب من التعامل مع التحديات التي يفرضها عليه تغير المناخ نفسه، فإذا كان تغير المناخ يعني مزيداً من الجفاف والقحط وتراجع الموارد المائية، وهذا يعني تضعضع النشاط الفلاحي باعتباره أهم مشغل بالوسط القروي، فبالله عليكم ماذا تريدون لهذا الشعب أن يفعل.
أليس من الأجدر تطوير القطاع الصناعي وتوسيعه بل ومضاعفته عدة مرات هو الحل الأمثل لتشغيل الملايين من الشباب وخلق فرص الشغل والتصدير خارج القطاع الزراعي المنهك. إن هذا الحل يستلزم الاستثمار العمومي الكثيف في إنتاج كهرباء رخيصة وعلى رأس مصادرها الطاقة النووية.
عواقب إهمال الخيار النووي
وإذا كان هذا المقال المتواضع صرخة في وادٍ، فإن عواقب إهمال الخيار النووي في إنتاج الطاقة الكهربائية سيكون كالتالي:
– عدم القدرة على تحلية مياه البحر بالكميات الكافية التي ستحتاجها المدن الكبرى وحتى الصغرى، وبالتالي العطش والفقر المائي والأمراض، وبالتالي القلاقل وغياب الاستقرار السياسي مع ما يعنيه من الدخول في حلقة مفرغة من التدبير العبثي غير الرشيد.
– عدم القدرة على التسريع والتوسع في القطاع الصناعي، وبالتالي ضعف أكبر في الاقتصاد الوطني مع ما يعنيه ذلك من بطالة وفقر، وبالتالي قلاقل مجدداً.
– الفشل في توفير الغذاء والماء والشغل يعني مزيداً من القلاقل والمشاكل، هذه بدورها تزيد الطين بلة وتزيد من صعوبة المشكل كالفأر الذي يجري طوال الساعات في العجلة دون أن يصل إلا للإنهاك والضعف.
وفي الأخير، لا يسعني إلا المناداة بأعلى صوت من أجل العمل والتسريع بوضع مشروع حقيقي لتبني الخيار النووي كمصدر أساسي للكهرباء الرخيصة بالمغرب والتنبيه لخطر التماهي مع سياسات المناخ التي تهدف بشكل أو بآخر لعرقلة التنمية بالدول النامية بحجة التغير المناخي وهو حق أريد به باطل، كما ألح على أهمية الحفاظ على باقي مصادر الوقود الأحفوري كمصدر أساسي للطاقة بالبلد، قبل بذلك دعاة الطاقات المتجددة أم لم يقبلوا، فلا شيء يهم أكثر من إنتاج طاقة كهربائية رخيصة بكميات هائلة للاستجابة لحاجيات الاقتصاد الوطني المتصاعدة ولمشكلة تحلية مياه البحر. فالمصلحة العليا للمغرب الفقير طاقياً واضحة وضوح الشمس في نهار جميل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.