يستمر للشهر الثامن طوفان الأقصى الذي اندلع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي مفاجئاً كثيراً من المراقبين للشأن الفلسطيني، وبينما لا يزال عديد من المراقبين يبحثون في أسباب الطوفان ومآلاته وتأثيراته المحلية والدولية، سنذهب في هذا المقال إلى البحث عن الحقائق التي أثبتها الطوفان أو نبّه إليها، ومن هذه الحقائق والأفكار ما يلي:
أولاً: نحن قادرون مهما بلغ ضعفنا وقلة إمكاناتنا على إحداث تغيير كبير في الواقع، وتكمن القضية الفاصلة في هذا الشأن بامتلاك أي فاعل سياسي لرؤية واضحة، يؤمن بها، ويسعى لتحقيقها، ويوظف الفرص السانحة لخدمتها، ويجعل من وجوده في السلطة والحكم أداة لتحقيقها.
والحقيقة أن المقاومة الفلسطينية "حماس" امتلكت رؤية واضحة تقوم على أن غايتها الأولى العمل على تحرير فلسطين، واستراتيجيتها لذلك مراكمة قوتها، وتوظيفها في الاقتراب من تلك الرؤية المنشودة، ورغم أنها تعرضت لضغوط كبيرة بدءاً من وصولها للحكم عام 2006، حيث طولبت بالموافقة على شروط الرباعية، وأهمها الاعتراف بإسرائيل، مروراً بالحصار الخانق، وانتهاءً بالهجوم الإعلامي الواسع عليها مرة لعلاقتها بإيران وحلفائها، ومرة لاتهامها بالتخلي عن المقاومة، أو الذهاب إلى ما سُمي دولة غزة، إلا أنها أصرت على منهجيتها التي وضعتها لنفسها، ولم تتأثر بمحاولات الأعداء والخصوم وأحياناً المحبين، رغم بعض الأخطاء التي وقعت فيها.
بدأت حماس ما يمكن أن نسميه تأسيسها الثاني عام 2000 بإمكانات متواضعة جداً، لا تتجاوز عدداً محدوداً من قطع السلاح والمقاتلين دون تدريب ولا خبرة ولا علاقات، لكنها سرعان ما تطورت إلى قوة عسكرية كبيرة مقارنة بظروف قطاع غزة الجغرافية والبشرية، وظلت تنتقل من مرحلة إلى أخرى، وتراكم تجربة تتفاعل مع الظروف وصولاً إلى تجربة تالية أكثر عمقاً، وذلك مرة بعد مرة، وصولاً إلى العملية الكبيرة في السابع من أكتوبر، والذي سيعد بدورها إحدى تجاربها التي ستمنحها خبرات هائلة.
لذا فإن أهم القناعات التي رسخها طوفان الأقصى أننا قادرون، ومن هنا تسعى إسرائيل -ومعها واشنطن وبعض أنظمة القمع العربية- لهدم هذه القناعة وترسيخ منطق الردع مجدداً؛ لأن حماس إذا خرجت مرفوعة الرأس من هذه الجولة فسيكون منطقياً أن تجعل مخططها القادم الإعداد لطوفان يتفوق أضعافاً مضاعفة على الطوفان الأول، وصولاً إلى مشروع التحرير الذي تتبناه، وهو ما سيتأثر به كل الفاعلين السياسيين المستضعفين في المنطقة برمتها.
ثانياً: أثبت طوفان الأقصى، أنه ليس هنالك كيان له القوة المطلقة، فذلك تصور في غاية الخطأ، فلا إسرائيل قوية، ولا المقاومة ضعيفة، ولا العكس، وإنما لدى إسرائيل نقاط قوة ونقاط ضعف، كذلك لدى المقاومة نقاط قوة ونقاط ضعف، فإذا ما أحسن الفاعل السياسي توظيف نقاط قوته بعد اكتشافها ودراستها وتطويرها، ليضرب بها نقاط ضعف عدوه، وأيضاً بعد اكتشافها ودراستها وتعزيزها، فإنه سيكون قادراً على قلب الموازين لصالحه.
فإذا كانت قدرة إسرائيل على الهجوم ساحقة لامتلاكها أدوات قتل متطورة ومتعددة، فإن مباغتتها بشكل مفاجئ سيحرمها من استخدام تلك القوة ويشل قدرتها على التصرف؛ لأنها عاجزة عن تجنيد كمّ كبير من الكتائب العسكرية على مدار اللحظة لحماية كل نقطة اشتباك في الداخل والضفة وغزة والحدود مع الدول العربية، بينما استثمرت حماس نقطة قوتها، وهي الجندي المدرب بكفاءة عالية وعقيدة راسخة، ثم غيرت طريقة قتالها بعد بدء العدوان الإسرائيلي لتتجنب نقطة ضعفها وهي عجزها عن الارتطام المباشر بنقطة قوة الاحتلال وهي عتاده البالغ ونيرانه الهائلة، فاشتبكت مع العدو بأقل عدد ممكن وأقل تسليح مستطاع لتستنزفه لأطول فترة ممكنة، وهذا هو التفسير الأهم لقدرتها على الصمود 8 أشهر، وما زالت قادرة على المواصلة.
ثالثاً: مهما كنت قوياً إلا أن القوة لها حدودها، وهي مرتبطة في تأثيرها بمدى استجابة الطرف المقابل للألم الناتج عن استخدام القوة المعادية، فإذا كانت القوة هي القدرة على التأثير، فإنها مهما كانت بالغة الحجم لا قيمة لها بدون تلك القدرة، فلو استمرت الحرب على غزة لسنوات دون أن تتمكن إسرائيل من إخضاع حماس للاستسلام أو تحرمها من القدرة على الفعل أو تزيل وجودها تماماً، فلن يخرج الاحتلال منتصراً.
رابعاً: القوة وحدها ليست حلاً للأزمات السياسية وإنما مجرد مسكّن فحسب، فقد انخدع الاحتلال بقوته، رافضاً أي حل للقضية الفلسطينية، بل ظل عاجزاً عن طرح أي مبادرة سياسية منذ انسحاب شارون من غزة، وهذا يُعلّم أي فاعل سياسي أن يسارع لاستثمار لحظة قوته لصناعة حل للمشكلات التي يشتبك فيها مع أعدائه أو خصومه.
ولنا أن نتخيل الواقع لو أن إسرائيل بادرت من تلقاء ذاتها لإطلاق سراح الأسرى مقابل تعهدات من حلفاء حماس بعدم تنفيذها أي عملية خطف لعشر سنوات مثلاً، لكن إسرائيل ظلت مصرة على استمرار معاناة الأسرى رغم إدراكها لمركزية قضيتهم فلسطينياً؛ لأنها كانت معتقدة أن قوتها واستخباراتها قادرة على منع أي عملية خطف، وعلى هذا لنا أن نقيس النتائج المختلفة لو تقدمت إسرائيل بمبادرات حقيقة لتحسين الواقع الاقتصادي في قطاع غزة.
إن من أهم الدروس التي أعاد الطوفان التنبيه إليها أنك إذا أغلقت كل المنافذ أمام عدوك، ووضعته تحت ضغط شديد فسينفجر لا محالة، كما تنفجر أي طنجرة ضغط أُحكم إغلاقها دون متنفس، تلك قوانين الفيزياء، ولا مجال لتجاوزها.
خامساً: لا تنخدع بتصرفات عدوك وأقواله أبداً، ذلك أنه في غالبية الأحوال لن يتخلى أي فاعل سياسي عن قيمه ومعتقداته إلا بقرار ذاتي، وكل الضغوط لن تغيره بحال، كما هم الأفراد الذي لا تتغير طباعهم إلا بقرار نابع من داخل ذواتهم.
لقد انخدعت إسرائيل بسلوك حماس كما انخدع بعض محبي الحركة، وكأنها ريشة ضعيفة تهتز أمام أي ريح قادمة، فقالوا بأنها مردوعة، وأنها تخلت عن المقاومة، وقد شوهت تلك القناعة كثيراً من الوقائع لتفهمها أجهزة أمن إسرائيل على خلاف حقيقتها الواضحة، وصولاً إلى الصدمة الكبيرة في السابع من أكتوبر.
سادساً: مهما كانت القدرات الاستخباراتية للخصوم قوية، إلا أن بالإمكان تجاوزها، عبر خطة تضليل محكمة، وعبر حرمان العدو من أدواته البشرية وتحييد أدواته التكنولوجية، كمنع استخدام الهواتف في أماكن وأزمان معينة.
ومن هنا فلابد لكل فاعل سياسي أن يتوقع دائماً أسوأ الاحتمالات ويستعد للتصرف على ضوئها، بغض النظر عن كيفية تحققها، فالأصل أن السؤال كان في مؤسسات الاحتلال الأمنية، ماذا لو اقتحمت المقاومة الحدود، وليس كيف ستقتحمها، أو هل ترغب في ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.