منذ الإعلان عن قيام الاحتلال الإسرائيلي بدولته في 15 مايو/أيار 1948، وهو يحتفي بانتصاراته على جيرانه من العرب في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر. يدعي الاحتلال أن نكباتنا ليست سوى حروب تحرير له وانتصار لكيانه الوليد. منذ حرب الأيام الستة (النكسة) وحتى حرب 1973 التي نعدها نحن العرب انتصاراً، يسوق الاحتلال نفسه داخلياً وخارجياً على أن جيشه لا يُقهر، متباهياً بقدرته على قمع انتفاضات الشعب الفلسطيني الأعزل.
منذ نشأته، سعى الاحتلال الإسرائيلي، بل وحتى قبل ذلك، إلى إحاطة نفسه بهالة من القوة والانتصار، مدعياً أن قوته تستمد من العقيدة التي بُني عليها جيش الدفاع الإسرائيلي ومن قبله قوات العصابات التي ارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين. حرص الاحتلال على ترويج انتصاراته حتى من قلب الهزائم، كما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. ويصر على نسب هذه الانتصارات له وحده دون الإشارة إلى مساعدة القوى العظمى له، كما حدث في حرب 1948 والدور البريطاني الكبير في تحجيم قوة الجيوش العربية. تماماً مثل وزارتي السلام والحقيقة في رواية "1984" للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، يروج الاحتلال لكذبته بكل الطرق حتى ولو أطر لعكس الحقيقة ليبعثرها ويصبح الزيف هو الواقع والحقيقة.
إذ على مدار عقود، سعى الاحتلال أن يلمع يظهر نفسه بمظهر الفارس النبيل الذي لا يهزم والذي يستمد قوته من نبل قضيته، وبهذا ومثل أغلب الروايات البطولية، فإن كل من يفكر في مواجهة هذا الفارس لن يلقى إلا مصيراً واحداً وهو الهزيمة.
كما أن نشر ثقافة الانتصار يعد ترياقاً لاستمرار حياة دولة الاحتلال، حيث يعلم قادة الاحتلال أن ساكنيه سواء في المستوطنات أو داخل المدن الفلسطينية المحتلة بالكامل نفسها لن يشعر يوماً بالأمان، بسبب المقاومة الفلسطينية الدائمة لاستدرار الأرض و بسبب معرفتهم أنهم يعيشون في دولة تعتدي وتكن العداء لكل الشعوب المجاورة. وبالتالي فإن الحكومات الإسرائيلية بجميع قادتها المتعاقبين يعرفون جيداً أن صناعة الانتصار واستمرار القوة حتى وإن كان ذلك وهمياً هو ما يضمن الاستقرار الداخلي كما أن هذه الصناعة تضمن كذلك إطالة عمر الاحتلال، وذلك من خلال ضمان الدعم الغربي الذي سيبقى طالما أن إسرائيل هي المنتصر وبقاءها كضامن للمصالح الغربية في المنطقة.
استغل الاحتلال الترويج لفكرة الانتصار الدائم من أجل ضمان بقائه، لذلك فإن إعلانه للهزيمة ولو مرة واحدة سيكون بداية النهاية، ومن متابعة سلوك الاحتلال في الإعلان عن قلة ضحاياه دائماً وخسائره، وعدم اعترافه بالهزائم كما حدث في لبنان عام 2006 وقبلها بعد انسحابها المخزي في عام 2000 من لبنان، وحتى بعد مرور 8 أشهر على بدء العدوان على غزة دون تحقيق أي هدف وتكبده خسائر مهولة من عملية طوفان الأقصى، يصر الاحتلال على إظهار نفسه بالمنتصر البطل.
عقم الانتصار
وقد تنبه لهذا السلوك عدد من المفكرين أبرزهم المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون الذي وصف الوضع بوصف "عقم الانتصار" والذي فسره بأن كل انتصار تحققه إسرائيل لا يضمن بقاءها بقدر ما يقربها من المصير المحتوم وهو الانهيار، وقد حاول يعقوب تالمون نقل هذا الدرس إلى رئيس وزراء الاحتلال السابق مناحم بيجين. حيث انتقد تالمون اعتقاد اليمين الإسرائيلي بأن "حدثاً" كبيراً واحداً كفيل بتغيير الموقف لصالح الاحتلال جذرياً وبشكل دائم، بل وفسر تالمون أوهام الاحتلال التي ولدت من جديد مع حرب الأيام الستة باعتبارها تعويضاً زائفاً، وزعم أن انتصار الاحتلال لم يكن راجعاً إلى أي قوة غامضة؛ بل كان نتيجة لسلسلة متعاقبة بسيطة من الظروف المواتية.
ونرى ذلك اليوم، ظن الاحتلال الإسرائيلي وبتفوقه العسكري أنه بضربة واحدة يمكنه سحق غزة ومحوها من على الخريطة، من ثم سيتمكن من أن ينهي القضية الفلسطينية للأبد، فسوق لنفسه انتصارات وهمية داخل الميدان على حساب المدنيين وحشد حكومات غربية عدة ليروج لحربة الإبادة ستعمارية الوحشية في غزة على أنها حرب مقدسة من الحضارة، لكن تلك العنجهية وبيع الوهم وقدرة الانتصار الدائم لم تفلح، وبعد صمود المقاومة بشكل أسطوري، وجد الاحتلال يطلق النار على قدمه، ويشدد الخناق على نفسه من قبل العالم، بعد أن أصبح الجميع يرى وحشيته وانتهاكه لحقوق الشعب الفلسطيني بكل وضوح، مما يؤدي خطوة بخطوة لعزل الاحتلال الإسرائيلي دولياً ليأخذ مكانه الطبيعي ككيان استعماري.
فاليوم، نرى عدداً من الدول الغربية وعلى رأسها النرويج وإيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا عزمها الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، هذا بجانب إدانة المحكمة الجنائية الدولية لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وكذلك جر جنوب أفريقيا لإسرائيل لمحكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة بسبب الانتهاكات في حق الشعب الفلسطيني، وبالطبع لا يمكن التحول في المزاج الشعبي للوقوف بجانب فلسطين، إذ باتت الأصوات المناصرة لغزة تأتي من جامعات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأكبر والدائم لإسرائيل والداعم لسياستها الاستيطانية.كل هذه الأحداث والإشارات ما هي إلا دليل على شيء واحد هو أنه مهما انتصر الاحتلال فإن مصيره الزوال، وإن استرجاع الفلسطينيين لأرضهم ما هو إلا مسألة وقت لا غير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.