لدى البعض ربما شعور بأن عقارب الساعة تتسارع في منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي مكان آخر، محدثة تحولات جذرية لم يكن لأحد أن يتصور وقوعها في ظل الظروف التي كانت قائمة قبل تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذه التحولات جاءت محملة بمعطيات جديدة، تطلبت جهود أجيال وكفاحاً مستمراً عبر عقود من الزمن. وفي ظل توازنات عالمية جديدة لا تزال في طور التشكل بعد انحسار عاصفة ما سمي بالفوضى الخلاقة في المنطقة العربية، وانكسار التحالف الغربي في أفغانستان، والتدخل الروسي العسكري في بلاد الشام ثم في شرق أوروبا لوقف تمدد حلف الناتو نحو الشرق، يبدو أن المنطقة تعيش لحظة فارقة تعيد رسم ملامحها الجيوسياسية.
شكلت عملية "طوفان الأقصى" ضربة قوية لنظام شرق أوسطي سعت الولايات المتحدة لتشييده طيلة العقود الخمسة الماضية، وتحديداً منذ حرب أكتوبر عام 1973. كان هذا النظام المأمول إكماله يهدف لدفن القضية الفلسطينية، وشهد فترات ازدهار وتوهج أحياناً، ولكنه تعرض لنكسات في أحيان أخرى.
كان غزو لبنان في عام 1982 ودخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت وإخراج قيادات المقاومة الفلسطينية من لبنان أحد مراحل الانتصار لهذا النظام. ومع ذلك، سرعان ما عرف النظام نكسات متتالية. في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، ضربت شاحنتان مفخختان مباني ثكنات عسكرية في بيروت، كانت تؤوي جنوداً أمريكيين وفرنسيين من القوة المتعددة الجنسيات في لبنان (MNF) التي جاءت لتسلم مهام الاحتلال من تل أبيب. أسفر الهجوم عن مقتل 307 أشخاص: 241 أمريكياً و58 عسكرياً فرنسياً و6 مدنيين ومهاجمين. كانت العملية مقدمة لرحيل قوة التدخل التابعة للناتو عملياً من وسط لبنان وفشل جزء من المخطط، ولكن القوات الإسرائيلية أبقت على احتلالها لمنطقة واسعة في جنوب لبنان تحت غطاء تكوين منطقة عازلة لحماية مستوطناتها الشمالية وكونت جيش جنوب لبنان تحت قيادة أنطوان لحد لتعزيز وجودها. فيما استمرت مخططات تسعير الحرب الأهلية في البلاد، لكن المشروع لم يدم.
انتهت الحرب اللبنانية الأهلية بإقصاء ميشال عون وتمكين حكومة إلياس الهراوي. في مارس 1991، أصدر البرلمان اللبناني قانون العفو عن كل الجرائم التي حصلت منذ 1975. في مايو 1991، صدر قرار بحل جميع الميليشيات باستثناء حزب الله، وبدأت عملية بناء الجيش اللبناني كجيش وطني غير طائفي. وتصاعدت العمليات الفدائية ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان بالتوازي مع توقف الصراع الداخلي. وفي يوم 25 مايو 2000، وتحت جنح الظلام، انسحبت القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان تحت تأثير ضربات المقاومة اللبنانية الإسلامية وأفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، ما سمح لحزب الله بالدخول منتصراً إلى مناطق الجنوب.
لكن لم تبتلع تل أبيب ما اعتبرته مهانتها في مايو/أيار 2000، وسعت لاستعادة قدرة الردع التي تعتبرها أساسية لاستمرارها.
لذلك، بدأت إسرائيل عدوانها إثر عملية أسر جنديين من جيشها يوم 12 يوليو 2006، عدواناً كانت ترى فيه حاجة لها منذ عام 2000 (ثأراً لهزيمتها وإعادة اعتبار لجيشها)، وكانت حضرت له منذ ثبت عجز المحور الأمريكي المتشعب الامتداد داخلياً وعربياً ودولياً عن تنفيذ قرار نقل لبنان من محور الممانعة والرفض لمشروع أمريكا إلى محور التبعية لها. لقد حاولت أمريكا أن تستثمر احتلالها للعراق وتفرض على كل دول المنطقة الخضوع، فقررت تكليف إسرائيل بالمهمة، وانتظرت الظرف المناسب للتنفيذ. وأعلنت إسرائيل مباشرة أن أهداف العملية هي: تدمير حزب الله ونزع سلاحه، وتحرير الأسرى.
استمرت الحرب 34 يوماً في مناطق مختلفة من لبنان، لكن بعد 18 يوماً على الحرب استخلصت أمريكا وإسرائيل النتيجة التالية: الهزيمة العسكرية واقعة لا محالة بإسرائيل ولا ينقذها إلا الحل السياسي، لذلك انطلقت كوندوليزا رايس في البحث عن الحل، وكان التغيير في الخطة.
قامت هذه الخطة على أساسين:
– ارتكاب المجازر للضغط على لبنان ليقبل بأي حل يفرض عليه.
– المشاغلة الميدانية مع التهديد المستمر باجتياح بري واسع.
وقد عملت إسرائيل لمدة أسبوع على هذه الخطة، وتوصلت خلالها إلى وضع مشروع قرار فرنسي أمريكي يعطيها كل ما كانت تريد كما لو أنها انتصرت في الحرب. وبعد جدل سياسي تدخلت فيه الدول العربية عدل المشروع إلى حد القبول به لبنانياً، ولبى لإسرائيل الكثير من الطلبات، لكنه أخفق في وضع الآلية لتنفيذ المطلب الأساسي وهو نزع سلاح حزب الله، ما يعني أنه الإخفاق السياسي الفعلي الذي يلحق بالهزيمة العسكرية. الهزيمة العسكرية لم تحجب بالقرار الدولي، ولكن كان الأمر الأخطر: الجيش الإسرائيلي هزم هزيمة فعلية تامة في حربه، فقد هاجم ليحقق أهدافاً أعلنها وعجز عن تحقيقها في الميدان.
ويبدو أن الإمبراطورية الأمريكية وابنتها المدللة إسرائيل لم تتعلما من أخطاء الماضي، فبغض النظر عن الاختلافات بين حرب 2006 والحرب الدائرة الآن، تتصرفان بنفس السلوك العنجهي والاستعماري وترفعان السقف دون رؤى سياسية أو عسكرية واضحة، وهو ما سيكبد الاحتلال هزيمة أخرى ستكون أشد وطأة.
إن الحروب لحظات مفصلية في تاريخ الدول، والحروب غير المشروعة قد تكون مميتة عندما تشكل ذروة سنام انحدار الأنظمة الاستعمارية والدول التي تخوض غمارها. ولنا في التاريخ عبر. فى كتابه "نشوء وسقوط القوى العظمى" يركز المؤرخ الأمريكي بول كيندي، في حدثه عن الإمبراطوريات التي نشأت خلال الـ500 عام الأخيرة على أن الحروب والإنفاق العسكري هو الذي أدى إلى سقوط كل الامبراطوريات، وربما نستشعر ذلك اليوم إذ نرى ترسانة القوى العظمى تُفتح لإبادة شعب مقاوم لكنها لا تفلح، وفي المقابل تتكبد الخسائر تلو الأخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.