تعتبر العبارة التي أدلى بها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في مجلس الأمن قبل فترة وجيزة في معرض تناوله للأوضاع في كل من ليبيا، وأوكرانيا، وفلسطين، والتي أشار فيها إلى أنه لن يخضع لضغوط أقوياء العالم ممن يملكون السلطة والنفوذ، انعكاساً واضحاً لحجم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها لمنعه من المضي قدماً في الإجراءات القانونية من أجل تحقيق العدالة في قضاياً عديدة. وأكد كريم خان عزمه مواصلة السير في طريق العدالة ومن أجل الضحايا، مشيراً إلى أن القانون يقف في صفه.
ولعل هذا التصريح يفتح باب التساؤل حول جدوى النضال القانوني ضد أقوياء العالم من السياسيين، والأمنيين، والعسكريين، والرأسماليين وغيرهم ممن يتحكمون بمصائر الناس دون وجه حق. إن أقل من 1% من سكان العالم ممن يملكون السلطة والمال والنفوذ يسيطرون على الغالبية العظمى، مما يبرز حجم المأساة التي تواجه البشرية على هذه الأرض.
قد يرى البعض أن مجاراة سلطة الأقوياء والدخول معهم في حروب قانونية أمر غير مجدٍ، حيث يمتلك هؤلاء الأدوات اللازمة للسيطرة والضغط، سواء بالمال أو النفوذ السياسي. من يملك السلطة في هذا العالم لا يرى القانون عائقاً، بل يمكنه إخضاع المجتمع ومؤسساته وفق مصالحه، بمن فيهم الأكاديميون، والباحثون، والعاملون، والمناضلون من أجل الحرية والعدالة، مما يركع باقي سكان العالم تحت وطأة هيمنتهم.
إذ تشكل هذه الفئه القوية من أصحاب السلطة والمال والنفوذ تحالفات علنية وأخرى خفية، مما يتيح لها الاستمرار في التأثير على الأحداث العالمية. حتى إن بعضهم وصل به الأمر إلى تهديد المؤسسات الدولية؛ فقد شهدنا الشهر الماضي تهديد أعضاء في الكونغرس الأمريكي من الحزبين للمحكمة الجنائية الدولية بـ"إجراءات انتقامية" في حال إصدارها مذكرات اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين متهمين بارتكاب مجازر بحق الأبرياء في فلسطين.
هذا الواقع يعكس قوة الضغط الذي تمارسه هذه الفئة على المؤسسات الدولية، وتضع التساؤل الكبير: هل يمكن للعدالة أن تنتصر في مواجهة هذا الطغيان المستمر؟
إن مثل هؤلاء الأشخاص الذين يشكلون هذه التحالفات السياسية يقومون بتحصين أنفسهم من أي مساءلة قانونية من خلال سيطرتهم على القضاء في العديد من الحالات، خاصة في معظم الدول النامية في آسيا وأفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا. يتم ذلك عبر التعيينات القضائية ذات الأبعاد الحزبية والسياسية، التي تبتعد عن المعايير المهنية الواجب اتباعها.
علاوة على ذلك، يحصن هؤلاء أنفسهم من خلال الاستفادة من المعارف والعلوم التي يحصلون عليها في أرقى الجامعات والمعاهد العالمية، مما يمنحهم تمييزاً عن باقي الناس، حتى عن أولئك الذين يدرسون في جامعات أقل مستوى. هذا الأمر يضع أصحاب السلطة والمال والنفوذ في مستوى أعلى اجتماعياً واقتصاديا وسياسياً أقوى، مقارنة بأوساط أكاديمية وإعلامية وأدبية وفكرية لا تصل إلى مستوى نفوذهم.
هذا التمييز يساهم بشكل كبير في منع أي محاولات من قِبل الأوساط الأكاديمية والفكرية والأدبية والإعلامية لتوضيح حقيقة أفعال هؤلاء وتداعياتها بعيدة المدى على باقي فئات المجتمع. الفئات الأكثر فقراً والتي تتأثر سلباً بشكل خاص، حيث تُخضع لتأثيرات سلبية مقابل الفئة القليلة من أصحاب السلطة والمال والنفوذ الأكثر ثراءً، لذلك تصبح الفجوة بين الأغنياء والفقراء أوسع، مما يعزز من صعوبة تحقيق العدالة الاجتماعية والقانونية.
هذه الممارسات ليست مجرد تحديات قانونية، بل هي جزء من نظام أوسع يهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم، حيث تبقى السلطة والنفوذ في أيدي القلة، بينما يعاني الأغلبية من تبعات ذلك. هذا الواقع يتطلب جهوداً جماعية وإرادة سياسية قوية لتحقيق التغيير المنشود وضمان أن يكون القانون في خدمة الجميع، وليس أداة بيد القلة المتسلطة.
فهيمنة هذه النخبة على القضاء والتعليم والإعلام تخلق عوائق هائلة أمام أي جهود تهدف إلى تحقيق التغيير والإصلاح. تلك الديناميكية تبرز الحاجة الملحة إلى مواجهة هذا الواقع بطرق فعالة، والتأكيد على أهمية العدالة والمساواة في المجتمع الدولي.
وكما أشرت آنفاً، فإن أصحاب رؤوس الأموال سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو معنويين كالشركات، ربما يشكلون جزءاً لا يتجزأ من منظومة القوة والنفوذ تلك. في هذا السياق، ذكر الكاتب العالمي ذو الاتجاهات اليسارية نعوم تشومسكي في كتابه "الربح فوق الشعب" من أن العولمة تسمح بهيمنة الشركات الكبرى على مقدرات الشعوب وتتيح لحفنة من الشركات الخاصة السيطرة على أكبر حيز ممكن من الحياة الاجتماعية في جميع بلدان العالم، بما فيها الدول النامية، لمصلحة كبار الأغنياء والمستثمرين، ولصالح أقل من ألف من الشركات الكبرى.
بينما يرى ملتون فيسك في كتابه "العيش بكرامة في ظل الاقتصاد العالمي: الصراع من أجل المنافع العامة" أنه لا بد من مقاربة الليبرالية الجديدة التي تمثل الدعامة الحقيقية للاقتصاد العالمي من جانب مدى تحقيقها للعدالة، ولا يراها في هذا السياق سياسة اقتصادية فحسب بل منظومة أيضاً. ويرى أن الليبرالية الجديدة لم تكن قدراً محتوماً لو توفرت الإرادة السياسية المناسبة. ويرى أن وضع حد لها ما زال ممكناً، بما يفسح المجال لقيام نظام اقتصادي عالمي على دعائم جديدة تتسم بعلامات من العدل والإنصاف.
لذلك، يجب أن يستمر النضال القانوني ضد أقوياء العالم بالتوازي مع أساليب النضال الأخرى. الأدوات القانونية، رغم أنها تأخذ وقتاً طويلاً، تساهم في ممارسة الضغط وإرباك سلوك هؤلاء الأقوياء وتصرفاتهم التي تؤثر على العالم بأسره، وعلى شرائح المجتمع الأكثر ضعفاً وفقراً بشكل خاص.
وسائل الإعلام تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في هذا السياق من خلال نشر الوعي داخل المجتمع بشأن الإجراءات القانونية واستخدامها كورقة ضغط في يد الضعفاء. كما يمكن للأوساط الأكاديمية، خاصة القانونية منها، أن تواصل العمل على تعزيز حكم القانون على مستوى الدولة وفضح الضغوط التي تمارس عليها. على المستوى العالمي، يمكن أن يفتح هذا المجال للتضامن بين باقي فئات الشعب.
رأينا كيف استطاعت جنوب أفريقيا جلب زخم شعبي إضافي للقضية الفلسطينية بجر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية. ورفض بعض الأكاديميين لانتهاك قوانين الحرية في الجامعات الأمريكية وضع الكثير من الضغط على الإدارة الأمريكية ومن يقف معها من الأقوياء.
تُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للنضال القانوني والأكاديمي أن يؤثر بشكل فعّال في مواجهة الظلم والهيمنة. إن التنسيق بين مختلف وسائل النضال يمكن أن يزيد من فعالية الضغط ويعزز من فرص تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع الدولي. النضال القانوني، المدعوم بوعي شعبي وإعلامي وأكاديمي، يمكن أن يشكل قوة هائلة في مواجهة القوى التي تسعى للحفاظ على مصالحها على حساب العدالة والإنسانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.