تدخل الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة شهرها الثامن، وتتضاعف أعداد الضحايا والمصابين مع اتساع حجم التدمير والهدم والحُطام، وتفاقم الوضع المعيشي لأهل غزة المحاصرين بثالوث الجوع والأمراض وآلة الموت الإسرائيلية.
وقد بلغ عدد الضحايا، وَفقاً لبيان وزارة الصحة الأخير في غزة، أكثر من 35272 شخصاً. أما عدد الجرحى والمصابين فقد فاق 79205 مصابين منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع، ومعظم هؤلاء الضحايا والمصابين من الأطفال والنساء. وهذا الإحصاء ليس دقيقاً أو نهائياً إذا ما استثنينا مجموع المفقودين، وكل الذين هم تحت الهدم والحُطام، ومجموع الضحايا والمصابين في الضفة وفي كل فلسطين.
وإن المشاهد المروِعة التي يتابعها العالم، في حَيرة وعجز، أو بتواطؤ وخذلان تثبت أمرَين اثنين: أولهما أن الحرب الهمجية التي يسلطها الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين العُزَل، في غزة، غير مسبوقة في العصر الحديث، وأن مشاهد الموت والدمار والإبادة الجماعية تفوق كل الأرقام والتوقعات.
الأمر الثاني أن النازيين الألمان أنفسهم، لم تصل جرائمُهم هذا المستوى من الوحشية والحقد حين كانوا يدمرون لندن، أو حين كانوا يقصفون عواصم أوروبية أخرى، وأنهم يَبدون كالتلاميذ، أو المبتدئين ناقصي الخبرة إذا ما قُورِنوا بهؤلاء النازيين الجُدد، وطوابير القتلة والسفاحين من الإسرائيليين المتعطشين لدماء الرضع والأطفال، والنساء والشيوخ، والمُعتدين على الموتى والمُسْتحِلين نَبْشَ القبور.
بين العبث والتأسيس
يعرف التهانوي العبث في كتابه (كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم) بأنه الفعل الذي لا يَترتب عليه فائدةٌ أصلاً، أو هو الفعل الذي لا يترتب عليه في نَظَر صاحبه فائدةٌ يُعْتَدُ بها، أو هو كل عمل ليس فيه غَرَض صحيح. أما التأسيس فهو مصدر من فعل أَسَس يؤسس، ومعناه هو رَفْع القواعد والبناء والتشييد. ويعرَف التأسيس، أيضاً، أنه إقامة الشيء على أساس يجعله مُسوَغاً.
بعد هذا العرض الخفيف ينشأ، عندنا، أمران اثنان: الأول أن التأسيس هو الفعل الواعي الذي يستهدف إقامة الشيء وبناءه على أساس صحيح يجعله ذا فائدة وقَصْد. أما الأمر الثاني فهو أن التأسيس يستهدف إقامة معنًى جديد وإقامة واقع جديد، وليست غايته التأكيد على معنى موجود، أو إثبات واقع موجود.
التَضحية: الماهية والدلالات
التَضْحية لغةً: مَصدر من ضَحَى يُضَحِي. ويقالُ: ضحى بالشيء أيْ بذله وتبرَّع به دون مقابل. أما التضحية اصطِلاحاً: فهي بَذل كل ما يُعتد به، أو كل ما كان غالياً ونَفيساً لأجل هدف كبير، أو في سبيل غاية سامية مع احتساب الأجر على ذلك. وهذا النوع من التضحية مستويات وألوان: فقد تكون التضْحية ببذل الوَقت أو المال، أو بإنفاق الجهد والعناية والاهتمام، ثم قد تتصاعد فتصبح تضحية بالنفس وتضحية بالحياة.
وعامة الناس يختلفون في موقفهم من التضحيات التي تُودي بالنفس والنفيس في ميدان الاستبسال ومقاومة الاحتلال. فقد يكون النَظر إليها، عند بعضهم أو جُلهم، من جهة واحدة فتصبح، حينئذٍ، خسارات ورَزايا، وفَقْد وضَياع.
وفي هذه الحال يصبح التعبير عن هذه التضحيات تعبيراً سلبياً، فتُوصَف بأنها عبثية؛ لأنه لا يترتب عليها، في نظر هؤلاء الناس، مِن فائدة يُعْتد بها أو قَصْد واضح أو هدف كبير.
وحجة هؤلاء أنه في قضايا التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال، قد يمكن الحصول على مكاسب معتبرة، والفوز بمواقع وامتيازات من خلال عمليات التفاوض طويل المدى، أو من خلال استثمار عامل الزمن الذي قد يصنع ظروفاً جديدة، أو يُنشئ مناسبات مواتية تجعل التخلص من الاحتلال وهيمنته أمراً ميسوراً أو، على الأقل، جهداً قليل التكاليف، ونضالاً هَين الكُلْفة صغير التضحيات.
الحرية ميلاد لا بُد له من مخاض
إن الذي ينبغي استحضاره في قضايا التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أن الحرية ميلاد، ولا بد لكل ميلاد من مخاض. وثمن هذه الحرية وآلام هذا المخاض هو، دائماً، باهظٌ بل باهظٌ جداً. وقد علمتنا الثورات الكبرى في العصر الحديث، كالثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي أو الثورة الفيتنامية ضد الهيمنة الأمريكية، أن ثمن الحرية قد يبلغ حداً يتجاوز القدرة والمُستطاع، وأن ضريبة الانعتاق، أبداً، باهظة مؤلمة شاقة.
ومعركة ستالينجراد، أثناء الحرب العالمية الثانية، التي دامت أكثر من 6 أشهر بين جيش الاتحاد السوفييتي، سابقاً، وقوات الجيش الألماني للسيطرة على مدينة ستالينغراد كانت حصيلتها مقتل أو جرح ما يقارب 1.130.000 جندي سوفييتي، وحوالي 760 ألف جندي من الألمان. وإذا أُضيف عدد الضحايا، في الجانبَين، إلى عدد المدنيين والمعطوبين، فإن عدد الضحايا الإجمالي لمعركة ستالينغراد قد يقارب مليونَي ضحية.
ثمن الحرية، إذنْ، غالٍ وضريبة الانعتاق باهظة، ولكن هذا هو الطريق الوحيد المَأمون العواقب لاستعادة الأرض والعِرض، واستعادة الكرامة الإنسانية واسترجاع كل الحقوق. أما خطاب التضحيات العبثية، كخطاب الصواريخ العبثية، فهو خطاب العبيد الذين يتمرغون في وَحل التبعية والهَوان، ويموتون مَوْتات قبل الموت، ويَرضَون بأي حياة ولا يشعرون بوجودهم إلا تحت أقدام أسيادهم أذلةً صاغرين.
الحرية عملٌ إنساني كبير يشهده الغيب
إن الحرية ميلادٌ. وقد اقتضت مشيئة الله العليا أنْ يكون لهذا الميلاد مخاض، وأنْ يكون له ثمن وتضحيات. والحرية، أيضاً، هي تخلصٌ وانعتاقٌ من وَضْع غير إنساني، وهو وَضْع العبودية والإذلال، إلى وضع آخر أكثر إنعاشاً للكائن البشري، وأكثر إنسانية وأليق بالنوع الإنساني عموماً. وهذا العمل الإنساني الكبير يشهده الغيب ويحضره المَلكوت، وهو مشهد مَهيب تلتقي فيه إرادة الأرض بمشيئة السماء لإزالة وضع غير إنساني صنعته، بالإكراه وبقوة الحديد والنار، قوى الشر والظلم والاستبداد التي تستعبد الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
التضحيات الكبرى في غزة وظيفتها التأسيس لواقع جديد
ينبغي الإشارة، أولاً، إلى أن التضحيات الكبرى في غزة، اليوم، هي امتداد لمسار التضحيات التي بدأت، في فلسطين، مع مقاومة عز الدين القسام (1883-1935) للإنجليز المحتلين وللعصابات اليهودية الغازية وهي، أيضاً، وفاء لتضحيات الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 التي قادها عبد القادر الحسيني (1948-1908).
وقد ظلت هذه التضحيات مصاحبة ليوميات الفلسطينيين، منذ الانتداب البريطاني عام 1923، ولم تنقطع، مدة قرن كامل من الزمن، إلى أنْ استَعْلَنت في هذه الصورة القوية، وتبدت في هذه المشاهد غير المسبوقة منذ السابع أكتوبر 2023.
فما هي طبيعة هذه التضحيات؟ وما الجديد فيها؟
إن الذي يميز هذه التضحيات في غزة، اليوم، هو حجمها الكبير والدلالات التي تصاحبها إذْ تشير، في المقام الأول، إشارة ظاهرة إلى درجة الإيمان العميق الذي يحركها: فهي تضحيات يُلازمها الحَمد، ويواكبها التكبير ويتخللها الرضا والتسليم، ويصنع عظمتَها وقدسيَتها هذا الصمود الخارق الذي ليس له مَثيل في العصر الحديث، والذي يُبْصر العالم، على المباشر، كبرياءه وتحدياته ويتابع بطولاته وإنجازاته. وكأن الإنسان الفلسطيني، في السابع من أكتوبر 2023، كان على موعد مع القدر لتغيير صورته النمطية فأخذ زمام المبادرة، وغير قواعد الاشتباك، وأعلن القطيعة مع زمن أوسلو ومفاوضات السلام، التي كانت انتصاراً للاحتلال ومكافأة للمعتدي.
إن كل تجارب البشر، في القديم والحديث، في مختلف الأنشطة والميادين، وفي الحروب والنزاعات تؤكد هذه الحقيقة الأزلية الكبرى، وهي أن التضحيات كلما كانت مرتفعة وباهظة دلت على أن أصحابها يستحقون الحياة، وأن الذي يدفع ثمن التضحيات المرتفعة التي تفوق الطاقة والمُستطاع، ويتحملها في صبر وصمود هو الذي يحقق النصر والغَلَب، وهو الذي يستحق التمكين في الأرض.
إن التضحيات الكبرى التي يدفع الفلسطينيون ثمنها، اليوم، ليس لها مَثيل في سِجِلات المقاومة الفلسطينية المتواصلة منذ مئة سنة. وكأن هذه التضحيات هي تتويجٌ لكل التضحيات السابقة، وهي إيذانٌ بأن نصر الله قريب. إن التضحيات كلما كانت أكبر ثمناً وأكبر حجماً، نقلت إلى الجهة المقابلة، أو الجهة المعتدية، شعوراً بالهزيمة النفسية وأسست، بالتبعية والمآل، لصحوة الضمير والمُساءلة.
ومن النتائج العاجلة لتضحيات الفلسطينيين الكبرى، في غزة وفي عموم فلسطين، أنْ أيقظت الضمير الإنساني العالمي، وجعلت أفئدة من الناس تَهْوي إليهم وتناصر قضيتهم، وتتولَّى الدفاع عنهم في المنابر المختلفة، وفي المؤسسات الرسمية والشعبية في العالم، وبذلك انتعشت قضية فلسطين وانبعثت من الموت كما ينبعث طائر الفَيْنيق من الرماد.
وإن المتأمل في هذه الحرب، والمتابع لمشاهدها المتسارعة وتطوراتها المتلاحقة وإفرازاتها المختلفة، على المستوَيَين الإقليمي والعالمي، ومجموع ما أنشأته في المواقف والسياسات وفي الشعور والرؤية، وفي الأفكار والتأثيرات.
إن المتأمل في كل هذا النسيج والمزيج لا يَفوته أنْ يدرك أن التضحيات الكبرى في غزة وظيفتُها التأسيس لمعنًى جديد، والتأسيس لواقع جديد. ومن المستحيلات أن تكون هذه التضحيات عبثاً؛ لأن المشيئة الإلهية العليا سبقت في عالم الغيب أن الايمان بالقضية، مطلقاً، هو الذي يكتب لصاحبها النصر والتمكين. فكيف يكون الحال إذا كان المؤمن بالقضية هو صاحب الحق أيضاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.