ظاهرة شهيرة ربما اطلع عليها القارئ أكثر من مرة في عدة مقاطع فيديو ساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وتتمثل في التالي:
دائمًا ما تهاجِم فصيلة الكلاب -بالنباح المستمر والمتصاعد- تهاجم الإنسان، وتتصاعد وتيرة هذا النباح ويعلو صياحها وبروز أنيابها إذا هرب الإنسان منها ولم يواجهها.
يحدث ذلك أيضًا حال وقوفها أمام باب مغلق ترى من خلفه أحد أعدائها (البشريين أو غيرهم). وفي مقطع الفيديو الشهير الذي أشرت إليه تحدث ربكة كبيرة للكلب إذا وقف الشخص في مكانه ولم يهرب، أو إذا فُتح الباب فجأة، فحينها يهدأ الكلب ويتوقف عن النباح ويتردد ويرتبك، ويبدأ في النظر يمنة ويسرة وهو شارد الذهن ولا يدري ماذا يفعل، وحينها يدرك أنه وقع في ورطة كبيرة بسبب أن خطته باءت بالفشل، حيث لم يضع من ضمن احتمالاته أن يُفتح الباب أو يتوقف عدوه عن الهرب، فالخطة لا تحتوي على ما بعد النباح، بل وضعها الكلب لتسير على النحو التالي:
رصد الإنسان المار في الطريق، ومطاردته.
النباح بصوت آخذ في التصاعد.
هرب الإنسان.
استمرار الكلب في المطاردة.
وفي النهاية عودة الكلب إلى مكانه الأصلي بعد أداء مهمته النباحية على أكمل وجه، ثم رصد فريسة أخرى لممارسة النشاط نفسه… وهكذا.
لكن حينما يتوقف الشخص ولا يهرب، ليتيح للكلب أن يقوم بفعل أكثر تطورًا من النباح؛ فإن الكلب يرتبك ولا يدري ماذا يفعل، لأن هذا ليس ضمن برنامجه، فالسقف الأكبر للخطة هو مجرد النباح ليس إلا.
التغريبيون وسقف التشكيك:
في أواسط القرن الثامن عشر ظهرت حركة الاستشراق، وبدأت تبث سمومها وتزرع أذرعها في الدول الإسلامية للتشكيك في الثوابت بزعم الدعوة إلى التفكير وغربلة التراث وتطوير الخطاب الديني، وكان الغرض الأساسي من ذلك إنشاء خطاب مقابل للخطاب الإسلامي يدعو إلى التشكيك فيه والطعن وبث الشبهات حوله.
وظهر بناءً على ذلك تلامذة مخلصون في العالم الإسلامي لهؤلاء المستشرقين يتبنون أفكارهم وتوجهاتهم ويرددون ما يقوله أساتذتهم بببَّغائية واضحة، وهو عينه ما يحدث الآن، فالمتتبع للخطاب "التنويري" الحالي والسابق ومصادره سيقف على ذلك بكل بساطة؛ مجرد ترديد لشبهات المستشرقين الغربيين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، من أمثال جولدتسيهر، وزويمر، ومرجليوث، وجون ماينارد، وغيرهم. حتى قيل إن الدكتور طه حسين اقتبس أطروحة مرجليوث بحذافيرها في كتابه "في الشعر الجاهلي".
الافتقار إلى مشروع إصلاحي ممنهج:
فليس لهؤلاء التنويريين الحاليين -والسابقين أيضًا بالمناسبة- أي مشروع إصلاحي أصلي تقوم عليه أفكارهم، اللهم إلا ترديد هذه الشبهات القديمة التي تجاوز عمرها مائتي عام، والتي تفتقر للأصالة والجدة، وتشكيك البسطاء في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بزعم عدم موثوقيتها أو تأويلها وتفسيرها تفسيرًا مغايرًا لما يفهمه الناس وما فهمه العلماء السابقون.
هذا هو السقف العالي للمشروع التنويري الحداثي التغريبي الحالي، فهؤلاء "الباحثون" -واسمحوا لي أن أسميهم باحثين رغم خلو كلامهم من أي منهجية بحثية تواضعت عليها المؤسسات البحثية والأكاديمية المعروفة، لكننا نسميهم بذلك تجوُّزًا- هؤلاء الباحثون ومراكزهم "الإعلامية" -لا البحثية- التي تروج لمثل هذا الغثاء، ليس لديهم أي مشروع إصلاحي مدوَّن سوى التشكيك عبر الدعوة إلى إعمال العقل والتفكير العقلاني، زعموا!! تمامًا كما ضربنا المثل في بداية هذا المقال بهذه الكائنات اللحمية النباحة، التي تتلخص خطتها في النباح فحسب، هذا أقصى أمانيها وسقف خطتها، لعل عدوها الإنسان يخاف منها، لتعيد الكرّة نفسها مرة أخرى مع إنسان غيره. وليس لذكر الكلب هنا والتشبيه أي غرض غير مجرد تشبيه الظاهرة بالظاهرة فحسب.
والعجيب أنه على مدار هذه الأعوام المائتين، ورغم ترديد الكثير من الشبهات حول التراث وضرورة تنقية كتب الحديث النبوي والتفسير والتاريخ مما ورد فيها من شذوذ، فإننا لم نجد لأي منهم جهدًا معرفيًا حقيقيًا في تحقيق أحد هذه الكتب مثلاً ونقدها!!
فصحيح البخاري -وفق رأي إسلام بحيري أحد رموز مؤسسة تكوين- زاخر بما يسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المرأة، وتعرضه للسحر، وتعامله مع بعض الأمور الطبية، ومليء كذلك بما يخلف القرآن صراحة، وبما يضاد المبادئ العقلية. لماذا إذًا ليس من ضمن خطة هذا "الباحث" أو غيره والمراكز البحثية التي ينتمي إليها، لماذا ليس ضمن خطتهم إصدار نسخة جديدة منقحة من صحيح البخاري مدروسة بعناية عليها تعليقات على هذه الجزئيات بصورة منهجية وبحثية عميقة؟ ولماذا لم يحدث ذلك من أحد منهم على مدار هذا التاريخ الطويل من الجعجعة والصراخ (حوالي مائتي عام)؟
الجواب ببساطة: لأن هذا ليس ضمن خطتهم، بل ولا يقدر عليه أحد منهم، فهؤلاء المتحدثون لا يملكون من الملكة العلمية أو التخصص ما يؤهلهم لذلك، فهم مجرد ناقلين لكلام غيرهم، ومرددين لشبهات عفا عليها الزمان وتراكم فوقها غبار الأيام، إلا أنهم ينفخون فيها الروح كل فترة بدعم من هنا وتمويل من هناك لتؤدي الغرض الأساسي منها وهو التشكيك ليس إلا.
هذا بالضبط ما يزوغون منه ويراوغون فيه، وإنني على يقين أن أحدهم لن يقدم على مثل هذه الخطوة مهما تطاول عليه الزمن، فالمركز "البحثي" الأخير الذي تم تدشينه منذ أيام "مؤسسة تكوين" هدفه الأوحد هو صناعة الزوابع الإعلامية كالعادة وإلقاء الشبهات لكن بزخم أوسع وبنسبة مشاهدات أكبر عن طريق تمويل سخي للغاية، فالفيديوهات التي تم رصدها ونشرت على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمركز -والمليئة بالمخازي العلمية والسقطات المنهجية والمعرفية- حازت مئات الآلاف من المشاهدات ووصل بعضها للملايين في أيام قليلة، رغم أن عدد المتابعين لهذه الصفحات لم يتجاوز خمسين ألف متابع!! وهذا يكاد يكون مستحيل التحقق لولا الإعلانات الممولة.
بالإضافة لذلك يعرف هؤلاء جيدًا الجمهور المستهدف لهم، فهم لا يستهدفون النخب المفكرة أو المثقفة التي لها القدرة على البحث والتدقيق في موثوقية المعلومات وصدقيتها، وإلا لتوجهوا للتأليف والبحث العلمي المتقن، بل هدفهم الأساسي هو رجل الشارع البسيط الذي تجذبه بهرجة المقاطع المصورة وجاذبية البرامج التلفزيونية، والفئات غير المثقفة، والشباب غير المدرك لأبعاد هذه التجمعات المشبوهة، لصناعة جيل جديد يميل إلى الإلحاد أكثر مما يميل إلى الإسلام.
القارئ المتأمل يدرك جيدًا مدى تهافت هذه الأفكار الاستشراقية وتفاهتها وسهولة ضربها وبيان عوارها وعدم منهجيتها العلمية، ولعل المناظرات التي أجريت مع (إسلام بحيري) توضح ذلك جيدًا، بل وإن تهديد أحد أساطين هذا الفكر (يوسف زيدان) بالانسحاب من عضوية مجلس أمناء مؤسسة تكوين وقطع صلته بها في حال أجريت أي مناظرة مماثلة -وذلك بعد الإعلان عن عقد مناظرة وشيكة بين إسلام بحيري وعبد الله رشدي- فهذا في حد ذاته يترجم حالة الضعف المنهجي والبحثي لهذه الأفكار وحامليها ومدى تهافتها، فالمناظرات السابقة كانت فضيحة حقيقية لهذا الفكر، وكشفت عن عواره بكل سهولة، لذا فإن أي مناظرة أخرى ستعقد في هذا السياق ستكون فضيحة جديدة، وأضرارها ستصبح أضعاف أضعاف مكاسبهم منها.
الخلاصة التي أريد أن أجملها هنا: الباب مفتوح لنقد التراث نقدًا علميًا منهجيًا يقوم على أسس أكاديمية وبحثية وعلمية متقنة، وهذا الأمر له سوابق كثيرة في تاريخ الحركة المعرفية الإسلامية على مدار أربعة عشر قرنًا حتى الآن، فلم يُمنع عالم أو باحث من تتبع أي كتاب تراثي أو تاريخي وتحقيق ما فيه من أسانيد ومتون، بل على العكس، فالحركة الحديثية في العلوم الإسلامية حركة مزدهرة للغاية، وأنتجت علمًا كان مضرب المثل في منهجيته وضبطه ومتانته، وهو علم الحديث.
هيا إذًا، تفضلوا، ابدؤوا وتتبعوا أحد هذه الموسوعات التراثية وتناولوها بالنقد والتنقية والحكم على الصحيح منها والضعيف والموضوع. تحدثوا في رجال السند وضعفوا ما تشاؤون منهم بمنهجية علمية واثقة، واجمعوا ما قيل في المتن وتأويلاته ورجحوا منه ما تختارون وفق دراسة تأصيلية وأصولية تميز بين الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص.
ومع ذلك نكرر أن ذلك ليس ضمن خطة هذه المؤسسات، وليس في نطاق قدرتها العلمية أصلاً، فكوادرها سقفهم هو الترديد بببغائية مغرضة في برامج الـ"وان مان شو"، وهدفهم الأساسي هو نشر الشكوك والشبهات ليس إلا، وليس لدى أحدهم القدرة العلمية ولا البحثية التي تؤهله للقيام بمهمة شاقة وتخصصية وبالغة التعقيد كهذه المهمة.
إن مهمة الباحث الحقيقي لا تقتصر على الهتاف والصراخ وتشكيك الناس في معتقداتهم وزعزعة ثوابت دينهم، وإنما تقديم الحلول والإسهام في علاج ما يراه خطأً أو مخالفًا للمنهجية العلمية والبحثية، وإلا لكان الناس كلهم باحثين وكتابًا، فالجميع يحسن الجعجعة والصراخ وبث الشكوك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.