لن يأخذوا أبداً حريتنا
من فيلم 1995 Braveheart
كانت السينما، منذ بدايتها، وسيلة قوية لسرد القصص، قادرة على إثارة المشاعر العميقة وتحفيز التفكير النقدي. فلم يقتصر دور السينما على ترفيه الجماهير فحسب، بل كانت أيضاً أداة للتغيير الاجتماعي. وبالنسبة للشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم، نجحت السينما في صنع مساحة من الإبداع قادرة على أن تعكس نضالهم وتطلعاتهم وانتصاراتهم، وترى المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن أهمية السينما تكمن في التأثير الذي تُحدثه في حياة المهمشين والأفراد الذين لا يراهم العالم ولا يعرف عن معاناتهم شيئاً. وهذه ليست مبالغة، فالسينما استطاعت أن تسلط الضوء على كثير من البشر الذين يعيشون على الهامش في عالمنا، فنقلت للعالم شعورهم بالغضب والإحباط، وصورت واقعهم، ومكنتهم من تصور إمكانيات جديدة، وتعبئة العمل الجماعي.
شهد أوائل القرن العشرين بداية السينما كشكل فني شعبي من خلال الأفلام الصامتة. وعلى الرغم من خلوها من الحوار المنطوق، نجحت تلك الأفلام في نقل روايات قوية من خلال الصور والتعبير الجسدي والموسيقى المصاحبة. مع تطور هذا الوسيط بمرور الزمن، تطورت أيضاً قدرته على التأثير في الخطاب الاجتماعي والسياسي بطرق عميقة.
في أوقات القمع، سواء في ظل الحكم الاستعماري أو الفصل العنصري أو الأنظمة الديكتاتورية، أصبحت الأفلام ليست مجرد أداة للترفيه، بل تحولت إلى صوت سري لمن لا صوت لهم. كانت السينما قادرة على تجاوز الرقابة السياسية والاجتماعية لتصبح وسيلة لفضح الظلم وتحفيز الوعي الجماعي. لقد منحت الأفلام الناس القدرة على رؤية معاناتهم معروضة على الشاشة، مما أتاح لهم الشعور بالتضامن والقوة الجماعية.
السينما والكفاح ضد الاستعمار:
فعلى سبيل المثال، لعبت السينما دوراً حاسماً في تغذية وتعزيز المشاعر التحررية والحركات المناهضة للاستعمار. جسدت أفلام مثل "معركة الجزائر" (1966) للمخرج جيلو بونتيكورفو النضال الجزائري من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري الفرنسي بواقعية مذهلة. أدى التصوير الواقعي للفيلم لحرب العصابات ووحشية القمع الاستعماري إلى رفع روح الدعم لحركات التحرر في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا وترميز المقاومين، كفرسان نبلاء في وجه الظلم، ويمكن القول إن ذلك ساهم في بناء وعي جمعي بضرورة المقاومة والتحرر من أجل انتزاع الاستقلال، حيث كان هذا الفيلم على سبيل المثال بمثابة مرآة تعكس معاناة الشعوب المستعمَرة، مما أكسبه مكانة خاصة كأداة لفضح الظلم وتعزيز التضامن الدولي.
وعلى نحو مماثل، تمكنت السينما الهندية أيضاً خلال فترة الاستعمار البريطاني، على الرغم من الرقابة الشديدة، من بث الأفكار الاستقلال ببراعة وذكاء. فعلى سبيل المثال أفلام مثل "Kismet 1943" استطاعت من خلال استخدام عناصر مجازية لتجاوز الرقابة وتوصيل رسائل المقاومة والأمل للهنود الذين كانوا يسعون وراء نيل حرية بلادهم لك الطرق من المستعمر البريطاني. فمن خلال الرموز والشيفرات، نجحت هذه الأفلام في إلهام الجماهير وزرع بذور الثورة في قلوبهم، مما جعلها جزءاً لا يتجزأ من النضال الوطني.
بالإضافة إلى ذلك، لم تكن هذه الأفلام مجرد أعمال فنية بل تحولت إلى أدوات سياسية وثقافية لها تأثير عميق. إذ ساهمت في تشكيل الوعي الجماعي وإلهام الأجيال للنضال من أجل حقوقهم وحريتهم. وبذلك، أثبتت السينما أنها ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل قوة تغيير حقيقية تساهم في تشكيل مسار التاريخ وتحفيز الحركات الاجتماعية والسياسية.
السينما وحركات الحقوق المدنية:
بينما في الولايات المتحدة، وجدت حركة الحقوق المدنية حليفاً قوياً في السينما، إذ قدمت الأفلام والأخص الأفلام الوثائقية سجلاً مرئياً للنضال من أجل المساواة العرقية، وسلطت الضوء على الظلم الذي يواجهه الأمريكيون من أصل أفريقي وقدرتهم على الصمود، كما نرى في فيلم "عيون على الجائزة" (1987)، سلسلة وثائقية شاملة، أرّخت تاريخ حركة الحقوق المدنية، وأصبحت أداة تعليمية أساسية ومصدراً للإلهام. هذا بجانب الأفلام الروائية مثل "Malcolm X" الذي صدر عام 1992، فحينها برع المخرج سبايك لي في إنتاج صورة حياة مالكوم إكس، أحد أكثر قادة النضال ضد العنصرية في أمريكا، فوصلت رسالته إلى جمهور أوسع، مما ساهم في إشعال وأعاد المناقشات حول الظلم العنصري والتمكين بشكل أكثر جدية. كما لعبت السينما أيضاً دوراً محورياً في إسقاط الضوء على الاضطهاد والعنف الذي تتعرض له النساء، إذ سلطت أفلام مثل "Thelma & Louise" و"A Doll's House" الضوء على سعي المرأة إلى المساوة والعدالة.
في أمريكا اللاتينية، التي لطالما سميت بالحديقة الخلفية للإمبراطورية الأمريكية، كانت السينما حاضرة منذ فترة طويلة كمرآة للمشهد الاجتماعي والسياسي المضطرب في القارة المنهوبة. فقدم مخرجون مثل فرناندو سولاناس وأوكتافيو جيتينو، من خلال بيانهم "نحو سينما ثالثة"، سينما ثورية تحدت أشكال الاستعمار الجديد وفككت أدواته الرأسمالية التي مازالت تساعده في استمرار استغلاله لموارد القارة، فعلى سبيل المثال فيلم "ساعة الأفران" (1968) صار عملاً مؤثرا في سينما أمريكا اللاتينية، حيث نجح في تصوير نضالات الطبقة العاملة والسكان الأصليين ضد الأنظمة القمعية. بينما رسم فيلم "روما" (2018) للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، حياة لعاملة منزلية من السكان الأصليين بشكل مؤثر، فسلط الضوء بسلاسه على قضايا عدم المساواة الطبقية والعرقية.
في أفريقيا، لم تغب السينما أيضاً، بل كانت حاضرة بقوة إلى جانب السينما العربية، وخاصة المصرية التي اشتهرت بإنتاجها الغزير والمتميز. وقدمت السينما المصرية العديد من الأفلام التي غرسَت فكرة الاستقلال، مثل فيلم "جميلة" عام 1958 الذي يتناول قصة البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد، بالإضافة إلى العديد من الأفلام الأخرى التي ساهمت في زيادة الوعي بنضال الشعوب العربية من أجل الاستقلال من المستعمر عبر الكفاح المسلح.
إلى جانب السينما المصرية، لعبت السينما الأفريقية دوراً فعالاً في استكشاف هويات ما بعد الاستعمار ومعالجة القضايا المعاصرة. وكان من أبرز المخرجين في هذا المجال عثمان سمبين، الذي يُعتبر غالباً "أبو السينما الأفريقية". استخدم سمبين أفلامه لانتقاد الاستعمار الجديد والظلم الاجتماعي في أفريقيا. فيلمه "الفتاة السوداء" عام 1966، الذي سلط الضوء على الاستغلال والعنصرية التي يواجهها المهاجرون الأفارقة في أوروبا، حقق صدى عميقاً وأثار حواراً حول الشتات والهوية.
كما لعبت نوليوود، صناعة السينما المزدهرة في نيجيريا، دوراً مهماً في تشكيل الروايات الثقافية ومعالجة القضايا الاجتماعية المحلية. الأفلام التي تتناول موضوعات مثل الفساد، والاتجار بالبشر، والعنف بين الجنسين، لم تقتصر على الترفيه فحسب، بل عملت أيضاً على تثقيف المجتمعات وتعبئتها لمواجهة هذه التحديات.
السينما في إيران.. رقابة صارمة وضغوط سياسية
على الرغم من الاستبداد والقمع الذي يشتهر به النظام الإيراني، حققت السينما الإيرانية اعترافاً عالمياً كبيراً من خلال أفلام شديد العمق والقوة في التركيب، استطاعت أن تعكس القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب، مع إبراز أمل الإيرانين في التغيير. يظهر ذلك بشكل جلي في فيلم "هذا ليس فيلماً" (2011) للمخرج جعفر باناهي، الذي يسلط الضوء على احتجازه القسري داخل منزله ومحاولاته لصنع فيلم ضمن هذا الحيز المحدود. إذ يعكس هذا الفيلم الروح التي لا تقهر لدى صانعي الأفلام الإيرانيين والتي هي بالطبع تعبر عن سمه مجتمعية هناك، ويعبر عن إصرار وقدرة الشعب وفنانيه على التعبير رغم الظروف القاسية.
وبالمثل، يتناول فيلم "ما وراء الجدار" (2022) للمخرج وحيد جليلفاند موضوع القمع بعمق. يفتتح الفيلم بمحاولة انتحار، فيشير إلى مدى اليأس الذي يشعر به بعض الأفراد في مواجهة النظام القمعي، فيقدم بسهولة صورة للدولة وطبيعتها القمعية، حيث نرى محيطاً من الجدران الرمادية الجرداء ودخول شخصيات متطفلة ومزعجة، مما يخلق شعوراً دائماً بالمراقبة والقلق. هذه العناصر تجسد الحالة النفسية والاجتماعية للأفراد الذين يعيشون تحت نظام قمعي، وتثير تساؤلات حول الحرية والأمل في مستقبل أفضل.
وإلى اليوم، تستمر السينما، في إلهام الشعوب المضطهدة ودعم الحركات العالمية من أجل العدالة. بفضل قدرتها على سرد قصص مقنعة، تصبح السينما قوة فعالة تلهم الشعوب المضطهدة وتدعمها. فمن خلال تصوير نضالهم وانتصاراتهم، لا تعكس السينما الواقع فحسب، بل تسهم في تشكيله أيضاً. إذ تتمتع الأفلام بقدرة فريدة على تحدي الأنظمة القمعية، وتضخيم أصوات المهمشين، وحشد العمل الجماعي. وبينما يستمر القمع والظلم في العالم، سيظل هناك صانعو أفلام مستعدون لروايتها، فالأفلام ليست مجرد وسيلة للتعبير الفني، بل هي أيضاً أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي، قادرة على إحداث تأثيرات عميقة ومستدامة في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.