بعد أن اعتدنا ظاهرة عزوف طلبة الجامعات عن حضور محاضراتهم وأصبحت أمراً واقعاً مع عجز القائمين على التعليم العالي عن معالجة الداء، يظهر أن العدوى انتقلت في السنوات الأخيرة إلى الثانويات، وخاصة بين طلبة امتحان البكالوريا الذين انتشرت بينهم "موضة" هجر الأقسام والانقطاع عن الدراسة في المؤسسات وخاصة في الثلاثي الثالث. والملاحظ تفاقم الظاهرة هذه السنة بحيث بدأت مبكراً وتحديداً مع نهاية الثلاثي الثاني (ربما لتزامنها مع بداية شهر الصيام..!).
كما اتسعت أفقياً لتشمل أيضاً تلاميذ السنتين الثانية والأولى بنسب متفاوتة، بحيث أصبح من العادي أن ترى عبارة "غياب جماعي" والتي تعني غياب كل تلاميذ القسم على ورقة تسجيل الغيابات اليومية. فإذا انطلقنا في تعاملنا مع ظاهرة غياب طلبة الجامعات بكونهم قد بلغوا سن الرشد قانونياً وبيداغوجيا بحيث لايشكل غيابهم خللاً كبيراً على تحصيلهم العلمي، فإن طلبة الثانوية في أغلبهم ما زالوا في سن المراهقة وهي فترة عمرية حساسة تقتضي من الجميع إحاطتهم برعاية ومتابعة خاصة هذا من جهة.
ومن جهة ثانية فإن طلبة النهائي خاصة مقبلون على إمتحان العمر وهي سنة الختام للظفر بالشهادة التي تسمح لهم بالانتقال إلى عالم الجامعة المغاير تماماً للمراحل التربوية السابقة.
أمام هذه الخطورة المضاعفة للظاهرة تزداد مسؤولية الجميع للعمل بجد لمعالجتها أو على الأقل للحد من انتشارها وتفاقمها في القادم من السنوات.
ونعني بها مجموع العوامل أو الشروط التي شجعت التلاميذ على الغياب عن متابعة دروسهم إلى آخر السنة الدراسية فنجدها خليط بين أسباب بيداغوجية نتاج ثغرات في النظام التربوي وأخرى من خارجه فرضتها سياسات الأمر الواقع، ويمكن أن نعدد أهمها في ما يلي:
وسعياً للمساهمة في معالجتها من البديهي البحث بتشخيصها ثم محاولة توصيف علاجها.
أولاً: أسباب هذه الظاهرة
1- تعدد مصادر التعلم: فالتطور التكنولوجي الخرافي والمتسارع وما يوفره من وسائل ومعلومات كثيفة، مكّن التلاميذ من مزاولة العملية "التعليمية التعلمية" ومتابعة دروسهم دون الحاجة للتواجد المرهق(كعمال المناجم..) في الأقسام طوال اليوم.
2- توفر بدائل عملية: كالدروس الخصوصية أو الدروس بأشكال مختلفة على الشبكة العنكبوتية والتي يقدمها أساتذة مهرة في العرض والتقديم، يضاف إلى ذلك العدد الهائل من الكتب والمطبوعات التي توفر للطلبة كل ما يحتاجونه من شروح، ملخصات وتطبيقات متنوعة على الوحدة الواحدة في كل مادة وفق البرنامج الرسمي لا تتوفر للكثير منهم داخل مدارسهم، التي ما زال موضوع الطباعة فيها مطروح بحدة ويشكل سبباً للصراع المزمن بين البيداغوجي والإداري!
3- التوقيت المرهق: من الملاحظ أن نظام التدريس المعتمد في بلادنا والموروث عن الاحتلال الفرنسي يقوم على حجز التلميذ داخل القسم طيلة النهار بحيث يبدأ دوامه من الثامنة صباحاً إلى الخامسة مساءً (وهو وقت صلاة المغرب خلال نصف السنة الدراسية الأول تقريباً..) وحرمانه من تغيير الأجواء ومزاولة نشاطات أخرى أصبحت ضرورية، ما يشعره بالضغط،الإرهاق والملل ويفقده القدرة على التركيز ومتابعة دروسه ومن ثم يؤثر على تحصيله العلمي.
4- ثقافة العتبة وتبعاتها: في سنوات خلت وفي إطار سياسة "شراء السلم الاجتماعي" اعتاد الناس فكرة العتبة (وهي عملية حذف إداري لدروس من المقرر دون مراعاة البناء البيداغوجي للمناهج..) وهكذا أصبح التلميذ وأولياؤه وحتى بعض أساتذته مقتنعون أن دروس الثلاثي الثالث غير مدرجة آليا في أسئلة البكالوريا وبالتالي لاداعي لمتابعتها، وتتأكد قناعته هذه مع التصريحات الشعبوية المخدرة التي يطلقها بعض مسؤولي القطاع بقولهم:".. ليطمئن أبناؤنا فالأسئلة لن تكون إلا على الوحدات التي درسوها فعلياً.."، وهكذا يظهر وكأن الجميع فهموا المطلوب ويعملون على تقليل عدد الدروس ما أمكن على حساب بناء التعلمات المستهدفة.
5- الرواية على حساب الدراية: من الثغرات القاتلة في نظامنا التعليمي أنه ينتصر للذاكرة على حساب الذكاء، بحيث نظام التقييم في الغالب يكتفي بتقييم الذاكرة وفقط، وهو بذلك نظام بسيط ومتأخر، والظاهر أن طموح منظريه في بلادنا لا يتعدى المستوى القاعدي في سلم المعرفة.
ولأن المجتمع أذكى من مسؤولي القطاع فقد أدرك الثغرة واستسلم لمنطق سقيم (على أساسه يُصنف الأستاذ الناجح) نُسب جوراً إلى التربويات يصلح أكثر للسيطرة على البُلهاء من الناس الذين نخشى منهم وعليهم ملخصه"..إذا جاء السؤال كذا فأجب بكذا، وإذا جاء كذا فأجب بكذا..". وهكذا اقتنع الكل بأنه يملك كل الحقائق ولا داعي للبحث والتفكير..! واكتفى التلميذ بتوظيف كل طاقاته لعملية الحفظ وتوقف عندها بحيث أصبح يحفظ حتى حلول تمارين الرياضيات والفيزياء عن ظهر قلب، ويحفظ مقالات الفلسفة واللغات (وينسبها إلى نفسه..!)، أما مواد التاريخ والجغرافيا والعلوم الشرعية فموضوعها محسوم منذ الاستقلال. فإذا كان الأمر كذلك فالدروس متوفرة والحفظ ممكن في البيت ولا داعي لعناء الحضور في المدرسة والتزاماتها البروتوكولية.
ثانياً: سبل حل هذه الظاهرة وعلاجها
حتى يمكننا اقتراح حلول للظاهرة علينا أولاً وضع ملامح لما نريده من نظامنا التعليمي حتى تكون لنا مرجعية تسمح بفهم حديثنا ووصوله إلى من يعنيه ويهمه الأمر.
لنتفق ابتداءً على أن العملية التربوية ليست وظيفة كباقي الوظائف لأنها تستهدف توفير الموارد البشرية التي يحتاجها المجتمع لتحقيق مشروعه النهضوي وفرض وجوده، ولا يمكن مقارنة وظيفة إنتاج مواد جامدة مصنعة بتكوين وتخريج طاقة بشرية مؤهلة.
ولنتفق ثانياً أن الموارد البشرية التي نستهدف الحصول عليها من عمليتنا "التعليمية" تنقسم إلى 3 مستويات على الأقل:
1- المستوى القاعدي: تكوين مواطن سويّ قابل للاندماج في المجتمع ومشاريعه، ويمكن بيداغوجيا أن نسميه مستوى استيعاب المعرفة.
2- المستوى الأول: تكوين إطار يمتلك حداً أدنى من الخبرة في صنعة ما،أو لنقل يمتلك قيمة مضافة تعتمد على معرفته، ويمكن بيداغوجيا أن نسميه مستوى توظيف المعرفة.
3- المستوى العالي: تكوين إطار مميز يؤطر المجتمع ويصنع مستقبله في مختلف المجالات، ويمكن بيداغوجيا أن نسميه مستوى نقد المعرفة والقدرة على البناء عليها وتجاوزها إلى معرفة أرقى (الابتكار والإبداع في مختلف الفنون..).
ولنتفق أيضاً على مجموعة من المسلمات من المهم أخذها بعين الاعتبار وهي:
1- تربوياً من الخطأ الفصل بين الذكاء والذاكرة، فلا معنى لذاكرة قوية دون ذكاء، أين يتحول صاحبها إلى وعاء للحشو لا أثر لما يحمل من أسفار لا على الشخص ولا على محيطه، وبالمقابل لا نلمس ذكاء الفرد إن لم تسنده ذاكرة قوية، وإن كان ولابد فالأولى الإنتصار للدراية، فالذاكرة يمكن تعويضها بالوسائل التقنية للحفظ.
2- استراتيجياً من الضروري إدراك أن العملية التربوية غير قابلة للحساب بمنطق اقتصادي؛ لأن التكوين السليم للمورد البشري ربح كله، فلو أخذنا كمعيار نجاحنا في المستوى القاعدي فقط فهذا يعني اقتصاد المجتمع لموارد مالية ضخمة كان سيوظفها لبناء مؤسسات أمنية جديدة (محاكم، مراكز أمن، سجون، وما شابه)، ومضاعفة أعداد منتسبيها لمواجهة الانحرافات المجتمعية.. ونستفيد أضعاف ذلك لو ننجح على المستويين الأول والأعلى.
ثالثاً: العلاج والحل
وكما أن المشكلة مركبة وأسبابها مختلفة، فمن المنطقي أن يكون العلاج مركباً والمقترحات تتوزع على محاور متعددة، فمن الحلول التي نعتقد نجاعتها:
1- تخفيفاً للإرهاق وحالة الملل التي يعاني منها التلميذ في المؤسسة التربوية، من الضروري العودة إلى نظام التفويج الذي جرب لمواجهة وباء الكوفيد لأنه يلزم التلميذ بالحضور لفترة واحدة فقط ويوفر له الوقت الكافي لمراجعة دروسه وممارسة هواياته، وحتى ممارسة نشاطات لاصفية مختلفة داخل مؤسسته.
2- استغلال ما توفره الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي لتسريع انتقالنا إلى المستويات العليا للمعرفة وتوظيفها في تحبيب تلامذتنا بمؤسستهم، بدلاً من النظرة السلبية والموقف الساذج من ثورة جارفة يمكنها أن تؤدي إلى تجاوز نظامنا التعليمي تماماً، ويصبح غيرنا من يبصم شخصية أبنائنا ويحدد قيمهم واهتماماتهم.
3- الدعوة لتجنب الحل البسيط القائم على منطق "الكل الأمني" الذي يلجأ إليه مسؤولونا في العادة والذي يُختصر في مجموعة إجراءات إدارية تقوم أساساً على:
ثقافة الردع مثل: الحرمان من الإعادة، الشطب من قائمة التلاميذ، تصفير كشف النقاط للثلاثي (يحتاجه الطلبة في المسابقات..)، استدعاء الأولياء لإرغام أبنائهم على الالتحاق بالمؤسسات.. إلخ، لأنه طبق منذ سنوات وثبت أن فاعليته محدودة بل تزداد الظاهرة تفاقماً كل سنة، فالمعلم الحقيقي دوره مرافقة التلميذ وليس الانتقام منه بالطرد والحرمان.
4- تغيير مناهجنا بحيث تخدم على الأقل مستوى توظيف المعرفة، بحيث تنقل التلميذ إلى وضع المشكلة وتخلق له التحدي الكافي الذي يدفعه للتفكير واستغلال معارفه لإيجاد الحلول هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيعفينا من حرج هجر أبنائنا لمقاعد الدراسة ويسمح لنا بتجاوز علل كثيرة.
وأخيراً علينا أن نفهم أن واجبنا الأساسي إقناع تلامذتنا أن المدرسة بنظامها المتطور توفر له: كيف يتعلم؟ كيف يفكر؟ كيف يحلل؟ كيف يحصّل المعلومة؟ وكيف يحولها إلى معرفة؟ ثم كيف يحول هذه المعرفة ويرتقي بها إلى أسمى مستوياتها (المَلكَة) فتتحول إلى حكمة ينتج عنها الابتكار والإبداع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.