احتلَّ الشِّعر مكانة عظيمة عند العرب، عبَّر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال: "كان الشِّعر عِلم قومٍ لم يكن لهم عِلم أصح منه"، فقد أنعم الله على العرب بالفصاحة والبيان، وتجلَّى ذلك في أشعارهم وآدابهم، وكان الشعر هو المقدَّم عندهم؛ لِما يمتاز به من حضورٍ دائمٍ في شؤون حياتهم على اختلافها وتعدُّدِها؛ فالشِّعر هو المعبِّر عنها في كل حين، وهو المؤرِّخ لها، فكانوا يعدُّون الشعر من عوامل القوة التي تساعدهم في النصر على عدوِّهم، ومما رُوِيَ في ذلك أنه "أمسك على النابغة الجعدي أربعين يوماً فلم ينطق بالشعر، ثم إن بني جعدة غزوا قوماَ فظفروا، فاستخفَّه الطرب والفرح، فرام الشعر، فذلَّ له ما استصعب عليه، فقال له قومه: والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسَرُّ منَّا بالظفر بعدوِّنا".
والله تعالى حين نفى الشِّعر عن رسولنا الكريم محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ينْفِه لِعَيبٍ في الشِّعر؛ وإنما نفاه عنه لأنه، يحمل رسالة من عند الله سبحانه، وكانت العرب أمَّةً شاعرة، فلو كان النَّبيُّ شاعراً؛ لظنَّ المشركون أن ما يأتي به ما هو إلا من خيالات الشاعر، أو أنه جنسٌ أدبيٌّ جديد ابتكره؛ فمِن أجلِ قطعِ السَّبيل إلى هذه الظنون؛ نفى الله عنه الشعر، فقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس: 69].
وكان الشعراء حين يتنافسون على الصَّدارة في هذا العِلم الفريد؛ كانوا يتنافسون بأسلوبٍ منهجي صحيح؛ فكانوا يتبارون في قول أجود ما يمكن أن يقال، وليس في الدعاية الإعلامية الكاذبة كما يحدث الآن في عصرنا حيث التكنولوجيا والسرعة الفائقة، بل كانوا يحتكمون إلى أهل الخبرة من ذوي التمكن بالكلمة أو ما يقال عنهم "الفحولة" الشعرية والبصارة النقدية، وليس كما يحدث الآن من سباقٍ هيستيري إلى حشد أصوات مشجِّعين لا يعرفون ما هو الشعر ولا من هو الشاعر، يزاحمون بها الشعراء المبدعين من أجل التقدم عليهم بلا حياء.
لم يكن في الماضي مثل هذا التفطل على الشعر، ولا مدعين ممن لا يكادون يقيمون وزن قصيدةٍ أو يُتْقنون نظْمها، أو يفرِّقون بين البحور المختلفة أو بين الصور المتعددة للبحر الواحد، أو يعرفون علل القوافي وعيوبها التي يجب اجتنابها في أثناء النظم، ثم لا يكتفون بادِّعاء الشِّعر؛ بل يَنْحلون أنفسهم ألقاباَ لا قِبَل لهم بها، ثم يجدون بعض وسائل الإعلام التي يقوم عليها أمثالهم فيروِّجون لهم ويجعلونهم في الصدارة، وبرُفْقَتِهم أمثالهم من مدَّعي النقد ومحترفي التزييف وجلب الشهرة، بينما الشعراء والنقاد المبدعون الحقيقيون لا يستطيعون الخروج من العزلة التي صنعها لهم أعداء الأصالة.
ربما لا يدرك مثل هولاء أن الشعر له مكانته السامية، الضاربة بجذورها في عمق الزمان، تلك المكانة التي لا تقبل التطفل ولا الادعاء بالموهبة؛ لأنها قائمة على ثوابت ومقوِّمات راسخة، وما يفعله هؤلاء لن يرقى بهم إلى مكانة الشعراء المبدعين؛ وفي هذا الصدد نَستذكر قول أبي عمرو بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب؛ لِفَرط حاجتهم إلى الشِّعر؛ الذي يقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويهوِّل على عدوِّهم ومَن غزاهم، ويهيب مِن فرسانهم، ويخوِّف مِن كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم؛ فلمَّا كثر الشِّعر والشعراء، واتخذوا الشِّعر مكسبة، ورحلوا إلى السُّوقة، وتسرَّعوا إلى أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"، وكلام أبي عمرٍو يقصد به من كان شاعراً فانحرف بأغراض شعره وسلك بها مسالك دنيئة لا تليق، فما بالك بمن هم يتطفلون على الشعر من أجل تلك المسالك، ومن يساعدونهم في ذلك؟!.
إن جودة الشعر ترتبط بدرجة الموهبة ومدى تمكُّنِ الشاعر من أدواته، ولا فرق بين الصغير والكبير في إتقان أي علمٍ من العلوم، ومنها الشِّعر، وكان لبيد بن ربيعة الشاعر الفحل -وهو أحد المعمِّرين- كان في نهاية عمره حين قدَّم على نفسه طرفة بن العبد الذي قُتِل وهو ابن 26 عاماً؛ وفي هذا المقام "أتى فتى من أهل الكوفة حماداً الرَّاوية، فعرض عليه شعراً قاله، فقال: ليس هذا بشِعرك؛ إنما اجتلبتَه؛ قال: لا -والله- إنه لَشِعري؛ قال: فإن كان شعرك فاهجني؛ وكان حماد ضخم البطن، فتنحَّى الفتى ناحية، ثم رجع إليه، فقال: قد قلت؛ فقال: هاتِ؛ فأنشأ يقول:
سَيعلَمُ حمَّادٌ إذا ما هجوتُهُ * أكنتُ اجتلبتُ الشِّعرَ أمْ أنا شاعرُ
ألَمْ ترَ حمَّاداً تقدَّمَ بَطْنُهُ ** فجاوَزَ منه ما تُجِنُّ المآزرُ
فليسَ بِراءٍ خُصْيَتَيْهِ ولو جَثا ** لِرُكْبَتِهِ ما دامَ للزَّيتِ عاصرُ
فقال حماد: أشهد أنه شعرك".
قديماَ لم يكن الشعراء يَعنِيهم الإعلام -الذي كان يمثِّله سوق عكاظ وغيره- بِقدر ما كانت تَعنِيهم قناعتهم الشخصية بما يقدِّمون من أشعار؛ لأن الجودة هي الحَكَم الحقيقي على امتداد الأجيال، فكانوا ينقِّحون أشعارهم ولا يعرضون منها إلا أجْودَها، و"كان زهير بن أبي سلمى يقول: خير الشعر الحولي النَّقِح المحكَّك"، ورُوِيَ في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني أنه "تحرَّك كعب بن زهير وهو يتكلَّم بالشعر، فكان زهير ينهاه؛ مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيُروَى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، فطال عليه الأمر، فحبسه، فمكث عدَّة أيام، ثم أُخبِرَ أنه يتكلَّم به، فضربه ضرباً شديداً، ثم أطلقه وسرَّحه في بهمِهِ، فسمعه يرتجز، فخرج إليه زهير وهو غصبان، فدعا بناقته، حتى انتهى إليه، فأخذ بيده فأردفه خلفه، وهو يريد أن يبعث ابنه كعباَ ويعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير :
وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ ** وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ
ثم ضرب كعباَ، وقال له: أجِزْ؛ فقال كعب:
كبُنْيانةِ القَرْئِيِّ مَوضِعُ رَحْلِها ** وآثارُ نِسْعَيْها مِنَ الدَّفِّ أبلَقُ
وبعد أبياتٍ؛ تحوَّل زهير إلى نعت النَّعام، وترك الإبل، وغيَّر حركة الرَّويِّ فقال:
وظلَّ بِوَعساءِ الكثيبِ كأنَّهُ ** خِباءٌ على صَقْبَيْ بُوانٍ مُرَوَّقِ
فقال كعب:
تَراخَى به حَبُّ الضَّحاءِ وقَدْ رأى ** سَماوَةَ قَشْراءِ الوَظِيفَيْنِ عَوْهَقِ
ومَضَيَا على ذلك في أبياتٍ، فلمَّا رأى زهير أن كعباً قادر على مجاراته؛ أخذ بيده ثم قال له: قد أذنتُ لك في الشِّعر يا بنيَّ"؛ فلم يدَع ابنه يقول الشعر إلا بعد أن اطمأنَّ على فحولة شعره؛ حيث كانوا يجعلون اهتمامهم بالشعر الجيد الذي يُعرَفون به، وليس بالشهرة من حيث هي شهرة كما يفعلون الآن؛ فقد نال الأقدمون جودة الإبداع وصحَّة الفكر، ولهذا بقيت إبداعاتهم شاهدة لهم بعد مرور تلك القرون الطويلة بما فيها من أحداث وتقلُّبات.
أما الآن في ظلِّ سيادة ثقافة الاستهلاك وعصر السيولة والاستعمار الثقافي والفكري، وحب الشهرة الذي سيطر على كثيرٍ من العامَّة، الذين سارعوا بانتحال الشعر وادِّعاء الفكر والعلم، وصنعوا ثقافة خاصَّةً بهم، بزَعمِ التطور ومواكبة العصر، وسعوا جاهدين إلى فرضِها وتعميمها، ووجدوا أجهزة إعلامية تروِّج لأفكارهم السطحية، تحت مسميَّاتٍ شعرية وأدبية وفكرية لا تربطهم بها علاقة من قريب أو بعيد، ناهيك عن وزارت الثقافةٍ في بلادنا وأفرادها الذي معظمهم ضعفاء علمياً وفكرياً وغير مؤهلين للعمل في الميدان الثقافي والمعرفي، لا يَعنِيهم الإبداع، ولا يدركون ضرورة الحفاظ عليه. في ظل ذلك كله اختلفت مكانة الشاعر وتدهورت كثيراَ، وأصبح الشاعر المبدع يبدو كأنه جاء في زمان غير زمانه، وما أكثر الشعراء المبدعين والشعر الجيد في هذا العصر!، لكن طغت على ذلك الرداءة والسطحية التي تقضي على الشعر الأصيل، وهو ما يعود بالسلب المباشر على ثقافتنا بشكل ربما لم يتخيله أشد المتشائمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.