في قاعة مزدحمة بعد مباراة كبيرة في الدوري الإنجليزي، وقف بيب غوارديولا أمام جمع من الصحفيين. الأجواء حماسية كالعادة والأنظار متعلقة بكل كلمة يقولها المدرب الأشهر في العالم. فأقدم صحفي بسؤال غوارديولا عما إذا كان يطمح ليصبح يوماً ما رئيساً للفيفا أو الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. ببساطة، رد بيب قائلاً إنه لا يحب ربطات العنق ويفضل الأحذية الرياضية، التي قد لا تتناسب مع رسميات الاجتماعات وعشاء العمل.
واصل الصحفي طرح الأسئلة بشغف، وكان غوارديولا يرد كالعادة بسلاسة، لكن أصداء بعض كلماته طنت في أذهان الحاضرين وعبرت حدود الغرفة إلى أن استقرت في آذان الكثيرين حول العالم، حين قال: "كل شخص يرى منزله وجيرانه، لكن انظر خارج هذه الدائرة الصغيرة إلى العالم. نحن هنا جالسون، لا نحرك ساكناً بينما الظلم يملأ كل زاوية ويقترب منا أكثر فأكثر. نعمل بجد في حياتنا اليومية دون أن نلتفت إلى ما يعانيه الآخرون".
لا أعتقد أن غوارديولا بارع في الكلام مثل براعته في وضع تكتيكات كرة القدم، لكن ما الذي دفع ذلك الرجل الذي لو أعلن اعتزاله اليوم، أن يصفق له العالم ويستمر التاريخ في الكتابة عنه كفيلسوف كروي أضاف جماليات على اللعبة التي تأخذ الكثير من حياة الناس في العالم، رجل بحسابات مادية يملك كل شيء، المال، الشهرة، الكاريزما، الأفضل في مجاله ربما لا ينقصه شيء، ما الذي يدفعه لقول هذه الكلمات التي إن لم نبالغ مليئة بالاغتراب الذي يشعر به الجميع في عالمنا اليوم رغم كثافة وسائل التواصل حولنا.
تتقاطع كلمات غوارديولا على بساطتها مع أفكار زيغمونت باومان، عالم الاجتماع البولندي الذي ناقش كيف يتم التعامل مع العواطف في مجتمع الاستهلاك بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع السلع. باومان يصف عالماً؛ حيث العلاقات هي مجرد "علاقات الجيب العلوي"، سهلة الاستبدال وسريعة الزوال بعد استهلاكها. هذه الرؤية تبرز كيف تغلب اللحظة الاستهلاكية على الروابط الإنسانية المعمقة، مما يعكس الشعور بالاغتراب الذي ربما دفع غوارديولا لقول تلك الكلمات، التي تأتي في لحظة شديدة الوضوح لكل ما يقوله باومن فبينما يقوم الاحتلال الإسرائيلي في غزة بمجازر يومية بحق الفلسطينيين، يتجاهل أغلب العالم المأساة بشكل مدهش.
وبالعودة لباومان ينتقد عالمنا بشدة ولكن بملاحظة وعقلانيه أشد، إذ يفصل ويحلل أحوالنا اليومية ببراعة وسهولة مثل ما يفعل غوارديولا في الملعب، يفصل تجليات الحداثة في أحوالنا اليومية، في خياراتنا الحياتية، وفي مشاعرنا، ورؤيتنا للحياة.
يتحدث باومان عن الحرية ووعود الحداثة بالرفاهية والازدهار والأمان للإنسان، إلا أن تلك كل الوعود سالت وتحولت لحالة من الخوف تسيطر على جميع البشر. إذ يشرح باومان في كتابه "الحياة السائلة" كيف يتم تفريغنا كأفراد اليوم من كل معنى، فبعد إبعاد السياسة والحياة عن الدين والفلسفة معاً، وإغراق الحياة في اللحظات الآنية والسلوكيات الاستهلاكية التي تشجع النزعة الفردية، تحول الإنسان إلى مجرد جسد مستهلك يطارد السلع اللانهائية في الأسواق. هكذا، طغت سياسات الحياة اليومية على القيم العليا والسرديات الكبرى، مثل التضحية من أجل الجماعة وغيرها من الأخلاق التي باتت تُعتبر قديمة وغير جديرة بالاهتمام.
ربما لم يكن غوارديولا يقصد توصيل كل هذه الأفكار بكلماته بعد المباراة، ولكن من المؤكد أن تصريحاته تعكس تأثيرات هذا العالم السائل الذي يصفه باومان. في هذا العالم، يصعب تجاوز الشعور بالغربة عندما يفتقد الإنسان للمعنى، وهذا ما يشظي الزمن، ويفرق شمل النفس ويرسلها لحزنها الأبدي الغير مفهوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.