لإيماني أن الإصلاح السياسي هو القاطرة لأي مشروع نهضوي يهدف لبعث الأمة وإعادة بسط ظلها، فكثيراً ما يشغلني موضوع القيادة وعثراتها القاتلة التي خسرنا بسببها معارك مصيرية، كما لعبت شطحاتها الدور الأساس في العجز الذي نعانيه.
فلو أخدنا مثلاً القائد ياسر عرفات -رحمه الله- الذي عاش ومات من أجل مشروع تحرير فلسطين والذي انخرط فيه منذ شبابه الأول (من مؤسسي حركة فتح وعمره 30 سنة)، وعرفه العالم بحيث أصبح يمثل الوجه الثاني للقضية الفلسطينية، تجدني أعجز عن الفهم والتحليل عندما أتذكر أنه هو من أسقط مشروعه وتنازل للعدو المحتل في أوسلو 93 عن حوالي 80% من أراضي فلسطين التاريخية؟! وأنا هنا لست بصدد مناقشة من منحه صلاحية التنازل عن قضية الأمة وحقوق الأجيال، لكن همي أن أجد الدوافع أو الشروط التي تجعل من مثله في الحنكة والتجربة يقع في هذا المحظور وينقلب عن كل المبادئ التي رفعها وكافح من أجلها طول حياته.
ونفس الشيء تقريباً حدث مع قائد آخر وفي ظروف مماثلة، وهو الزعيم الجزائري "مصالي الحاج" الذي كانت بداياته مشرقة (منذ العشرينيات حتى بداية خمسينيات القرن الماضي) فعرف بـ"أبو الوطنية" وبزعيم "تيار الاستقلال"، واشتهر بتمثيله لتيار الاستقلال في الحركة الوطنية، لكن نهاياته اختلفت وفي لحظة تاريخية فارقة أخلد إلى هواه وقاد حركة مضادة لثورة التحرير (عبر حزب الحركة الوطنية الجزائرية التي ارتبط اسمها عند الشعب الجزائري بالخيانة "مصطلح حركي") بدلاً من دعمها ومساندتها انسجاماً مع مشروعه الذي بدأ به وعرف على أساسه.
ومقابل هاته الثقافة العليلة والنظرة الساذجة للقيادة والمشروع نجد غيرنا يحمل مقاربة أخرى تفصل تماماً شخص القائد عن المشروع أو القضية، فها هو مثلاً الزعيم العالمي "نيلسون مانديلا" الذي توفرت له كل ظروف الخلود في منصب القائد لكنه اختار في اللحظة المناسبة الرجوع إلى الصفوف الخلفية مع الاستمرار في خدمة القضية التي عاش ومات من أجلها، وها هو هنري كيسنجر الذي لم يتوقف يوماً حتى مماته (عاش قرناً كاملاً) عن خدمة مشروعه بطرق ووسائل مختلفة رغم ابتعاده عن أضواء المسؤولية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولو نستمر سنجد أمثلة كثيرة ومختلفة من زعماء الغرب الذين خرجوا بسلاسة من دائرة الضوء والنجومية لكنهم استمروا في خدمة قناعاتهم ومشاريعهم بطريقة عادية وهم في الصفوف الخلفية.
أما عندنا فالصورة واحدة والنتائج متماثلة والداء نفسه، فالزعيم فوق مستوى النقد ويقرن في الغالب مع المقدسات، فسمعنا من يرفع شعار "الملك والوطن"، وسمعنا من يستعمل مصطلح "الذات الأميرية"، وسمعنا من يرفع شعار"الرئيس الزعيم "خط أحمر، وسمعنا أن الأسد مقيض من الله لحماية سوريا وأن وجود السيسي حكمة إلهية، وغيرها من الخرافات والخزعبلات، فأين تكمن المشكلة يا ترى؟ وما تفسير سلوك قادتنا منذ الانحراف الأول (الذي أعتقد أنه بدأ مع معركة صفين) إلى يومنا؟
كتفسير أولي لسلوك الزعيمين المذكورين وأمثالهما نجد طغيان منطق القائد الملهم أو القائد الكاريزما الذي يختلط عنده الأمر بمرور الوقت فيصبح لا يفرق بينه وبين المشروع! وتتقمص دائرته الضيقة دور الخمرة التي تلعب برأسه وتفقده القدرة على التمييز فيصاب بآفة الخلط العضوي بين القضية وشخصه.
الدعوة إلى الوحدة على حساب الشرعية ردة سياسية
وبعودة سريعة إلى تاريخنا في جزئه المنير نجد أن أول رِدَّة سياسية كانت بقبول نخبة المجتمع حينها التنازل عن الشرعية السياسية مقابل وحدة الصف، فلا الوحدة تحققت، بل تفاقم تشرذمنا وتحول من اختلاف في وجهات نظر سياسية إلى خلافات عقدية ولا الشرعية استرجعت إلى يومنا، والأخطر التشوه الذي لحق مفهوم القيادة وحدود القائد في ثقافتنا الجمعية، فبفعل غواشي التاريخ وعجزنا المزمن وكحال الغريق الذي يتمسك بقشة أصبحنا نبحث عن القائد الملهم بدلاً من القضية العادلة أو التنظيم الناجح، وعند كل فشل، وبدلاً من الخضوع لسنن الحياة والشعور آلياً بالحاجة لدورة إصلاحية جديدة وبالتالي العمل على تجديد القيادات، وهذا الذي كان على ياسر عرفات أو مصالي الحاج أو غيرهما أن يفعله بدلاً من تنازلهما عن القضية!
نجد نخبة الولاء المحيطة بالزعيم الكاريزماتي تسارع للبحث عن شرعية جديدة للقائد الملهم، لأنه هو التاريخ وهو الشرعية، وهو الرؤية، وهو صانع الانتصارات، أما الفشل والأزمة فتنسب إلى القواعد التي أساءت القراءة وفشلت في الالتزام والتنفيذ أو تفسر بمنطق المؤامرة (الوهمية في أغلب حالاتها) الذي يريح الجميع ويعفيهم من تحمل مسؤولية الإخفاق والذي تقتات عليه ثقافة الاستبداد، فكل فشل من الطبيعي أن ترافقه أزمة تنتج عن الاختلاف في تفسير أسبابها، وبدلاً من ترسيخ ثقافة النقد والتحضير لتغيير قيادي يشرف على دورة إصلاحية جديدة، تطرح في كل مرة مجموعة المصالح متقمصة دور العارف بالمشروع والحريص على سلامة التنظيم فكرة الحفاظ على وحدة الصف بالاحتفاظ بالزعيم، وما يضرنا لو أجلنا الشرعية فترة أخرى، ولا بأس من معاكسة دورة الحياة وسنن الكون!
الأبوية وغياب الرشد
لو نستقرئ مسار الأحزاب والتنظيمات لوجدنا أنه من الطبيعي أن تلعب القيادات التاريخية دوراً مهماً في النجاحات المحققة وخاصة الانتصارات في المعارك الانتخابية، لكن التسليم بهذا يعني أن تتحمل أيضاً مسؤولياتها الكاملة في حال الفشل والإخفاق. فمقاومة الشعب الجزائري للاحتلال الفرنسي لم يتوقف منذ هجماته الأولى في 1830 ورغم فشل كل تلك الثورات المتتالية، فالأهم حرص أصحابها على توريث الأجيال اللاحقة جذوة القتال قبل خروجهم من المشهد حتى ظهر جيل النصر في نوفمبر 54 وأنجز المهمة التي عجز عنها أسلافه، وهذه المقاربة في التفكير هي الأصلح والأصوب، فبعيداً عن الأبوة واحتكار المشروع على قياداتنا أن تعي أن طول مكوثها على رأس القيادة وعدم احترامها لدورة التجديد ينتج عنه مظاهر مرضية كثيرة تفتك بالتنظيم وتقتل المشروع، أهمها:
مشكلة النخب وكيفية إدماجها وشرعية الترقية في التنظيم
فالقائد الكاريزما يؤرقه موضوع تجديد الشرعية ومع طول الأمد تتغير نظرته فيصبح يرى في القيادات الصاعدة جيوباً متمردة تهدد عرشه، ولا تملك المستوى من الرشد الكافي، ويقتنع أن عليه قمعها ومواجهتها، أو على الأقل تحجيمها وتهميشها، ومن الطبيعي أن تستقيل هذه القيادات إذا كانت نخباً ذات كفاءة فيستنزف التنظيم مع الوقت ولا يبقى متشبثاً ببرنوس الزعيم إلا كتل المصالح ونخب الولاء.
مشكلة الامتيازات التنظيمية
كما هو معلوم فمن طبيعة التنظيم الشمولي الحرص على احتكار كل الفرص في تقديم الناس، حيث يسعد الزعيم بسيطرته على الامتيازات التنظيمية ولو كانت رمزية ويحرص على حصر توزيعها على كتل المصالح ونخب الولاء التي تظهر دعمها المطلق لمشروعه ومسيرته المقدسة غير القابلة للمراجعة، فتخبُو مع الوقت قيم التنظيم وتتشتت نخب المبادئ ويزداد نفوذ نخب الولاء والطاعة التي تحول النضال من أجل الأفكار والقناعات إلى عمل مأجور تتبادل فيه ما توفر من منافع، ابتداءً من مناصب حكومية سامية ووصولاً إلى حزمة ورق الطباعة، والمقصود بنخب المبادئ القيادات التي تشربت المشروع ووعت واقعها وتنظر إلى العمل السياسي والتدبير التنظيمي بمنظار مستقل عن برنوس الزعيم.
لقد بلغنا سن الرشد
أمام هذا التبديد الممنهج لطاقات الأمة وثرواتها حان الوقت لتعي نخبتها أن عليها تجاوز ثقافة القائد الكاريزماتي الذي يسهل احتواؤه أو الضغط عليه، وهذا ما حدث ويحدث منذ قرون وإلى يومنا هذا، والعمل على بناء تنظيم يقوم على العمل المؤسساتي تكون القيادة فيه جماعية تمثل مؤسسة متضامنة وليست فرداً ملهماً، فبعيداً عن التدبير الإلهي نجد في عالم الأسباب أن من حفظ ثورة التحرير وأوصلها إلى بر الأمان هي القيادة الجماعية التي قامت عليها من أول يوم، ونفس الشيء يمكن قوله على المقاومة الفلسطينية اليوم والتي تتبنى خيار المؤسسة القيادية فلا يوجد بينها القائد الملهم الذي لا يمكن استبداله، بل يوجد مشروع التحرير المقدس الذي لا يمكن لأي أحد نسيانه.
إن المشكلة في تقديري لا تكمن في المشروع أو في الثغرات التي تظهر في وثائقه النظرية والتي يمكن لأكاديمي متمكن سدها، إنما مشكلتنا الحقيقية تتمثل في عجزنا عن تجديد قياداتنا بطريقة سلسة وطبيعية، ولن يتحقق ذلك إلا بـ:
1-السعي لبناء أي تنظيم رسالي على شكل مؤسسات مركبة ومتوازنة الصلاحيات، حتى نضمن توظيف النخب ذات الكفاءة.
2-ترسيخ مبدأ ترقية النخب داخل التنظيم على أساس الكفاءة، والنزاهة والفعالية، حتى نضمن اطمئنان الناس للتنظيم ومشروعه وانقراض نخب الولاء.
3-اعتماد دروس التاريخ وتجارب الجوار الجغرافي للتفكير في ترسيخ رؤية تنظيمية تقوم على التداول واحترام سنة الدورة الإصلاحية، وبالتالي معالجة استبداد القيادة بمفاصل التنظيم باسم التاريخ أو باسم الجغرافيا وهي صورة مصغرة عن استبداد السلطة الذي تعاني منه شعوبنا.
4- أن يعي قادتنا اليوم (توفرت فيهم الكاريزما أم لم تتوفر) أن واجب الوقت بالنسبة لهم هو توريث العمل لنخب الكفاءة وليس التنقيب عن نخب ولاء جديدة تؤسس لشرعية كاذبة أخرى للزعيم وتدفع بالتنظيم نحو هزائم جديدة مؤكدة.
ونخب الكفاءة التي ندعو لتقديمها هي نخب المبادئ الواعية بطبيعة الصراع، المتشبعة بالمشروع والقادرة على تجديد عناصره، لا يأسرها الماضي النير عن تجديد وسائل تمتاز بالنفس الطويل، والأهم المرتبطة بالشعب والمدركة لهموم مجتمعها، والحاملة لقضاياه المركزية وعلى رأسها تحرير فلسطين.
وليعلم من يهمه الأمر أن إصلاح القيادة تحدٍّ وجودي للتنظيمات الرسالية، وهو خطوة لازمة مؤكدة غير كافية في مسارنا نحو الإصلاح السياسي، والاستمرار في اجترار نفس الخطايا وتبني نفس العلاجات عاقبته نتلمسها في مختلف المحطات والتي تنتهي دوماً بالفشل والهزيمة وكأنها قدر محتوم، فتكرار الهزيمة قد يعصف بالمشروع من أساسه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.