بقصدٍ أو بدون قصد يعيش السوري اليوم ـ إذا اتفقنا أساساً أنه يعيش ـ بمختلف مستوياته الفكرية والاجتماعية حالة من البعد الثقافي والفكري والمجتمعي عن الشخصية السورية التي تكونت عبر تراكمات عشرات السنين في العصر الحديث.
النزوح السوري لم يكن حالة من البعد الجغرافي فقط، بل خلق داخل الشخصية السورية حالة من الاغتراب الثقافي والاجتماعي، وخصوصاً بعد نشوء جيل تربى وربّما ولد بعد الثورة السورية، بعيداً عن جميع ما يمت للشخصية السورية بصلة.
الأطفال السوريون ككبارهم، ليس حالهم واحداً تقسّمهم السياسة والشتات والاغتراب إلى أحوال وطبقات تحكمها الجغرافية والمال والمجتمع الجديد المحيط، بعيداً عن الانتماء والإخلاص لما انتمى إليه آباؤهم.
مع ملايين الأطفال واليافعين الذين تربوا بعيداً عن سوريا جغرافياً وعاطفياً، ومع انشغال العائلة عنهم في دول النزوح، وغياب الكيان السوري الاجتماعي والشخصية السورية في لا شعور هؤلاء الأطفال، فغالبيتهم لم يسمع عن تدمر ولم يدرس حضارة أوغاريت، ويعجز بعضهم عن تسمية عاصمة سوريا، ويجهل تماماً العادات والأعراف والأخلاق السورية.
ومما زاد هذا الاغتراب عمقاً وألماً، بعدهم عن اللغة العربية فمعظم النازحين يقيمون في تركيا وأروبا، مما دقّ إسفيناً كبيراً بينهم وبين لغتهم الأم التي ربما حوربت من حكومات بعض هذه الدول، فما عادت اللغة العربية عندهم تتعدى كونها لغة المحادثة اليومية الضحلة بين أفراد العائلة لا أكثر، فلغة القراءة والكتابة بالمدرسة والشارع والاختلاط هي لغات أعجمية بعيدة عن تكوين الشخصية العربية، وما تحمله اللغة العربية من بعد ديني أيضاً وأهميتها في ربط هذا الجيل بدينه وأخلاقه وتواصله حتى مع أقربائه في بلده الأم.
ناهيك عن ارتسام صورة الفشل والدمار والطائفية والفساد في ذهن الناشئ السوري، بعد هذه السنوات من الحرب والضخ الإعلامي لطرفي الصراع، والتي خلقت مع كثرة وسائل الإعلام الجديد وانفتاحه حالة من التشتت وعدم الوضوح، مع الفشل الناجح جداً لهيئات المعارضة التي أخفقت في تحقيق أي انجاز سياسي أو تعليمي أو تنظيمي للمغتربين واللاجئين السوريين الذين لم يعانوا فقط من دمار الحجر واحتراق البيوت، بل وجدوا أنفسهم كالأيتام مع فشل تنظيم أي بيت يضم شتاتهم وهمومهم في بلاد الغربة، رغم كثرة المنظمات والهيئات والمكاتب المحسوبة على الثورة، وفشلها حتى في إنجاز أغنية تمجد الثورة السورية أو تنتج فيلماً وثائقياً يؤرخ لمعاناة شعبها، أو وضع منهاج مدرسي بعيداً عن مناهج النظام البعثي.
ولا يبتعد الداخل السوري عن هذه الصورة مع اقتران حياة السوري هناك بصورة الظلام والفساد وطوابير الخبز والغاز والانفلات الأمني والأخلاقي، وسيادة سلطة العصابات، ومرجعية "كل مين ايدو إلو" ، "وحلال على الشاطر".
ما يرسم أمامنا صورة معتمة حالية ومستقبلية، لن يساعدنا غيرنا في إجلائها، فالكل ساهم في صنعها وتكريسها ويدعون اليوم لصرف المليارات على خطط إعادة إعمار لا تعدو صفقات اقتصادية وسياسية، الخاسر فيها أيضاً السوريون، الذين يقع على عاتق أنفسهم وقبل التفكير في نفض الغبار وبناء ما تهدم، إعادة تأهيل الجيل الذي عانى ضياعاً واغتراباً ونسياناً لوطنه وثقافته، فمن غير المنطقي أن تطالب أحداً بالعودة إلى وطنٍ وإعادة بنائه والإخلاص له، وهو لا يشعر بالانتماء له، ولا يعرف شيئاً عنه أصلاً، وربما لا يتقن لغة هذا الوطن، فالذي يملك الحل والمستقبل السوري يعيش في ظل هذه الصورة، وهو ما يتطلب استنفاراً على جميع الأصعدة، لإعادة إحياء ما تهدم من الشخصية السورية، وربطها بأرضها وتاريخها وثقافتها، فالعمل على إعادة إعمار البشر أولى وأهم من إعادة إعمار الحجر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.