ذهب الجمهور (الشافعية والمالكية والحنابلة) إلى أن الحلي لا زكاة فيها (وهو القول الأول). وذهب الحنفية ورواية عن أحمد، إلى أن فيها الزكاة (وهو القول الثاني).
فالموضوع خلافي، وما سبق كان خلاصة مختصرة لرأي المذاهب الأربعة.
ولقد نشأنا وتعلمنا ألا نزكي عن حلينا (وكان هذا رأي جدنا علي الطنطاوي)، ولكن في السعودية أخذتْ اللجنة الدائمة للإفتاء بقول الأحناف، فصَدَرَتْ عنها الفتوى "بوجوب زكاة الحلي"، وتصدرت هذه الفتوى وانتقلت -بسبب قوة وسعة انتشار القنوات الفضائية والإذاعية التابعة لها- ما يفسر تضارب الآراء، ويبرر حيرة النساء، وتكرار سؤالهن عن الموضوع.
فأي القولين هو الأصوب أو هو الأرجح، أو هو الأورع والأتقى؟!
إليكن التفاصيل المهمة للفتوى، مع سرد الأدلة، ثم ترجيح القول الأقوى:
حيث أَجْمَعت المذاهب الأربعة أنه لَا زكاة في الحلي إذا كانت أحجاراً كريمة وجواهر أو ياقوتاً أو ألماساً (إلا أن يراد بها التجارة). وأما بالنسبة للذهب والفضة:
فذهب الجمهور إلى أن استعمال الذهب والفضة في التحلي يخرجهما من الأموال الزكوية؛ لأن الحلي مالٌ غير قابل للنماء.
فالحليّ المعدة للزينة، لا زكاة فيها في قول الجمهور (مغني المحتاج 2/95، وحاشية الدسوقي 1/490، وكشاف القناع 2/234)، في حين رأى الحنفية أن استعمال الحلي في الزينة واللبس لا يسقط عنه الزكاة تمسكاً بالأصل وبما ورد من أحاديث؛ فدليلهم أن: المادة التي صُنعت منها الحلي هي نفس المعدن الذي خلقه الله ليكون نقداً يجري به التعامل بين الناس، والذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، فألحقوا الحلي بسبائك الذهب والفضة ونقديهما.
وكان دليل وحجة الفريق الأول (الذي قال: لا زكاة عليها) وهو الجمهور:
1- أن الحلي خرجت بالصناعة والصياغة عن مشابهة النقود، وأصبحت من الأشياء التي تُقتنى لإشباع الحاجات الشخصية كالأثاث والمتاع والثياب، وهذه لا تجب فيها الزكاة بالإجماع.
2- لم يرِد نص صحيح صريح يوجب الزكاة فيها، أو ينفيها عنها، والأصل براءة الذمة فتبقى على أصلها.
وأفادوا بأن: النصوص العامة الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة لا تشمل الحلي، لأن لفظ (الأواقي) لا تطلق على الحلي، بل على الذهب المضروب، حيث قال ابن خزيمة في صحيحه: "اسْمُ الْوَرِقِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبْنَا بِلُغَتِهِمْ لَا يَقَعُ عَلَى الْحُلِيِّ الَّذِي هُوَ مَتَاعٌ مَلْبُوسٌ" (4/34).
وقال الشوكاني: "ولا يصح استدلال من استدل على وجوب الزكاة في الحِلية بما ورد من ذكر الزكاة في الورِق لأنه قد ثبت في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما: أن الورق اسم للدراهم المضروبة، فلا يصح الاستدلال بهذين اللفظين على وجوب الزكاة في الحلية، بل هما يدلان بمفهومهما على عدم وجوب الزكاة في الحلية. وكذلك الآية، فإن لفظ الكنز لا يطلق على الحلي المتخذ للاستمتاع، وإنما المراد بالآية الذهب والفضة التي من شأنها أن تنفق بدليل قوله: (وَلَا يُنفِقُونَهَا)، وذلك إنما يكون في النقود، لا في الحلي الذي هو زينة ومتاع".
3- لم يثبت وجوب الزكاة عن الحلي عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود؛ فعضد الجمهور قولهم بالآثار الواردة عن الصحابة في عدم وجوب الزكاة في الحلي، وهذه بعضها:
قال ابن حزم: "وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ عَنْهُمَا صَحِيحٌ" (المحلى بالآثار 4/ 185).
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حَجْرِهَا لَهُنَّ الحلي فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ.
وروى مالك (الموطأ 485) عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتهُ وَجَوَارِيهُ الذَّهَبَ، ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ. وقال الباجي عن إسقاط الزكاة عن الحلي: "وَهَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ (المنتقى شرح الموطأ 2/ 107).
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ قَالَ: "فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ" (مصنف ابن أبي شيبة 2/384).
وعليه فلا زكاة أصلاً على المرأة في حليها.
4- وأما ما ورد من أحاديث عنها، فقد اختلف أهل العلم في ثبوتها، كما اختلفوا في دلالتها. فأجابوا عنها بأنها ضعيفة كلها:
قال الترمذي: "وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا البَابِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْءٌ (جامع الترمذي 3/29). وقال ابن الجوزي: "كلُّها ضعافٌ" (التحقيق 3/71).
وقال مفتي المملكة العربية السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ: وصريح ما استدل به الموجب لزكاة الحلي المعد للاستعمال من النصوص المرفوعة: كحديث المسَكَتَينِ، وحديث عائشة في فتحاتها من الورق، وحديث أم سلمة في أوضاح الذهب التي كانت تلبسها، كل ذلك يعلم من تتبع كلام الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد والنسائي والترمذي والدارقطني والبيهقي وابن حزم أن الاستدلال به غير قوي لعدم صحتها، ولاشك أن كلامهم أولى بالتقديم من كلام من حاول من المتأخرين تقوية بعض روايات ذلك الصريح. (فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ 4/97).
وقد حاول بعض من يصحح هذه الأحاديث توجيهها وصرفها عن ظاهرها، وقيل في ذلك أقوال كثيرة، ولكنها لا تخلو من ضعف وتكلف.
ومن الفقهاء مَن جعلها منسوخة، ومنهم مَن تأوَّلها على أنَّ زكاة الحُلِيّ إنما كانت واجبة حين كان الحُلِيّ من الذهب حراماً، فلما صار مباحاً للنساء سقطت زكاته بالاستعمال.
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي تُرجّح القول بعدم وجوب الزكاة في الحُلِيّ؛ لأنَّ "الدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا هو المعتمد في الفتوى.
وهكذا يتبين أن حجة الجمهور هي الأقوى، كما أن الناس يميلون عادة لرأي الأكثرية، ويطمئنون لهم، والأكثرية قالوا: "لا زكاة في حلي المرأة".
ثم إن كثيراً من النساء ليس لديها مال، ولا مورد، وزوجها يمنعها من الخروج للعمل ومن التكسب، ولا تملك من الذهب سوى قطعة أو قطعتين، أو خمسة… كانت مهرها أو ورثتها من أمها، فكيف ستزكي حليها؟
وهناك من رد على هذا، بأنه ليس حجة لأن السابقين لم يذكروه! وعليها بيع قطعة منه وتزكيته! ولكن تكون بعض القطع ثمينة جداً وغالية ونادرة، ولها ذكريات، وبيعها يبخسها ثمنها، خاصة إذا كان اضطرارياً، ويجعل المرأة تخسر الكثير من ذهبها (لأنه قطع قليلة)، ويجعل المال الناتج عن البيع يخسر ثمنه أيضاً مع التضخم، فهي خسارة في خسارة. والإسلام لم يأمرها بهذا، فقد ورد السماح بتأجيل الزكاة لمن لا يملك السيولة المالية في الحال.
ولكن تبرز بعض الإشكالات، فهناك شبهات تخيف النساء:
الشبهة الأولى– حيث تقول لي سيدة: "أنا لا ألبس ذهبي"، فهو في الخزانة دوماً، أو تخاف عليه فتودعه في صندوق الأمانات بالبنك، أو تكون مغتربة فتخبئه في بيت أهلها.
أو تكون نيتها إعطاء ذهبها لبنتها عندما تكبر، أو هبته لابنها كهدية لعروسه يوم زفافه.
فهل يصح في هذه الحالة ألا تدفع زكاته؟ والجواب:
قاعدة الزكاة: كل ما كان للاقتناء والاستعمال الشخصي فلا زكاة فيه.
ونص الحنابلة على أن الحلي المعد لاستعمال مباح لا زكاة فيه، ولو لم يستعمل. قال البهوتي (كشاف القناع 2/234): "وَلَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ مُبَاحٍ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مُعَدٍّ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ أَوْ إعَارَةٍ، وَلَوْ لَمْ يُعَرْ أَوْ يُلْبَسْ حَيْثُ أُعِدَّ لِذَلِكَ". (يعني المهم النية).
وقَالُ الْخِرَقِيِّ: "إذَا كَانَ مِمَّا تَلْبَسُهُ، أَوْ تُعِيرُهُ". يَعْنِي أَنَّهُ إنَّمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَوْ مُعَدّاً لَهُ، فَتَسْقُطُ عَمَّا أُعِدَّ لِلِاسْتِعْمَالِ؛ لِصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
وفي الفتاوى المعاصرة الموثوقة على النت، ومنها موقع إسلام ويب أخذ بهذا القول: "الحلي المعدة للاستعمال، والزينة المباحة، فلا زكاة فيها مهما بلغ ثمنها، ولو لم تُلبس".
الشبهة الثانية تقول: "عندي كمية كبيرة من الذهب"، وتعلل: "فقد كان الذهب رخيصاً، وكانت تأتينا هدايا كثيرة منه، وهو مجمد بالحلي، فكيف لا أزكيه؟".
والجواب: الذين قالوا بعدم وجوب الزكاة في حلي المرأة، قالوا وأكدوا بالغاً ما بلغَ وزنُه. يعني الموضوع لم يفتهم، وأعطوك الجواب القاطع ليطمئن قلبك.
الشبهة الثالثة: "الحلي مال، وإنا لو مررنا بضائقة فإني سأبيعه". وتعقب: "فكيف أضحك على نفسي، وأتهرب من فريضة، وكيف سألاقي ربي وأنا أشعر أني مخادعة؟".
والجواب: كلامها من حيث المضمون صحيح، وكلنا كنساء (وخاصة اللاتي لا يملكن أي مورد) نحدث أنفسنا بفكرة بيع ذهبنا حال احتجنا، ولكن الحكم الشرعي يقول: لو اشتريت أو اقتنيت الذهب كحُلي، وكانت نيتك الأولى والمبدئية اتخاذه للزينة، فإن الشريعة استثنت هذا النوع من المال من الزكاة؛ لأنه لم يتخذ أصلاً للنماء، فهو كالمقتنيات الشخصية: الملابس، والبيوت والمراكب، فلا زكاة عليه.
وإنك لو تفكرت، لوجدت: أن كل ما في بيتك هو مال، واليوم تستطيعين بيع كل شيء، كل شيء حقيقة وفعلياً وبلا مبالغة (الملابس واللعب وأدوات المطبخ…)، وأنا نفسي (ورفيقاتي، وزميلاتي) بعنا أغراضنا حين هاجرنا، وحصلنا على مبلغ جيد من بيع مقتنياتنا، هذا عدا عن أنه بإمكانك بيع موبايلك (والآيفون بالذات يحتفظ بسعره)، فهل تزكينه؟!
كما أن الأحجار الكريمة غالية ثمينة، ورغم ذلك لم يفرض الله الزكاة عليها، ما يعني أن هناك حسابات شرعية توجب الزكاة أو لا توجبها.
ويُستثنى من ذلك أمر واحد فقط، وهو "إن كنت فعلاً قد اشتريت الحلي بنية الادخار والتوفير فقط، أو للتجارة والتأجير، فتجب فيها الزكاة في هذه الحالة"، كما جاء بالمغني: "كَذَلِكَ مَا اُتُّخِذَ حِلْيَةً فِرَاراً مِنْ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ" (4/221).
وإلى هذا ذهب ابن القيم، وأكد في القرن الثامن عدم وجوب الزكاة (إعلام الموقعين 2/70): "الذَّهَب وَالْفِضَّةَ ومَا هُوَ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ دُونَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ، كَحِلْيَةِ الْمَرْأَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ".
وهناك من يقول لك: "زكِّه على سبيل الاحتياط، وخروجاً من الخلاف"، وهذا في الحقيقة ليس من الورع في شيء، فالصحيح تتبع الأصوب، وليس اختيار القول الأشد، وأحياناً الأصعب، والأشق على النفس.
وهذا أسميه أنا "التلفيق المعاكس"، وأقصد: هناك من يجعل "تتبع الرخص من المذاهب" من التلفيق المرفوض، والمفروض اتباع مذهب واحد، أو سؤال من يتوفر من أهل العلم والأخذ بقوله، وأما تحري الأيسر عن قصد فلا يجوز… وأنا أضيف: فهل يجوز إذاً تحري الأشد، والأخذ بالأصعب والأشق من كل مذهب؟!
وإني لأتساءل: لماذا لا ينهون عن هذا الفعل أيضاً؟! خاصة إذا لم يكن هو الأرجح؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.