تشكل الحرب المستعرة على غزة، التي دامت لأكثر من 7 أشهر، محوراً درامياً في تحولات القوى الدولية والإقليمية، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية، بدافع دعم الاحتلال الإسرائيلي ومطامحها بعيدة المدى، قد سارعت إلى الدفع برؤية لإعادة تأسيس هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط. باقي الدول الغربية، بتأثير من التوجهات الأمريكية وتأثراً بالتبعية، وُظفت إمكانياتها الإعلامية والسياسية والعسكرية لتعزيز الاحتلال ومحاولة استرجاع الهيمنة الغربية المتداعية على الساحة الدولية.
لكن الاحتلال الإسرائيلي، رغم ادعاءاته عن جيشه الأقوى الأسطوري والأقوى في المنطقة، ومع الدعم العسكري السخي الغربي، لم يحقق سوى الخسائر أمام المقاومة، وفشل في تحقيق أي هدف من أهدافه التي وضعها، فلم ينجح في استعادة أسراه ولا في إخماد جذوة المقاومة الفلسطينية، التي ألحقت به خسائر غير مسبوقة. فالمقاومة لم تكبد الاحتلال فقط عن خسائر مادية، بل استطاعت أيضاً أن تهز الصورة والسرديات الكاذبة عن إسرائيل كـ"ضحية"، مما سمح بظهور الحقيقة بشكل أكثر وضوحاً عن إسرائيل ككيان استعماري ووحشي، يحظى بدعم من نظم غربية وتتبنى سياسات استعمارية وعنصرية.
لم تسلم الإمبراطورية الأمريكية الداعم الأكبر للحتلال من الخسائر، فعلى مستوى هيمنتها الدولية، كانت تعاني واشنطن بالفعل من تداعيات فشل العقوبات ضد روسيا، وصعود الصين، واليوم تجد نفسها الآن في مواجهة تداعيات أوسع نطاقاً من توابع "طوفان الأقصى". فداخلياً، ها هي الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة وحول العالم تظهر تضامناً متزايداً مع القضية الفلسطينية، ولم تعد اتهامات "معاداة السامية" فعّالة في قمع الأصوات المناصرة للحقوق الفلسطينية، مما يشير في تغيير مستقبلي لحساب القضية، وهذا ليس مبالغة، إذ لم تستطِع السنوات ولا ملايين الدولارات ترسيخ الأكاذيب الصهيونية في عقول طلبة أفضل الجامعات الأمريكية، فإذا بهم اليوم يعتصمون ويعرّضون حياتهم المهنية للخطر من أجل فلسطين.
وحالياً بعد كل ذلك، تحاول واشنطن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هيمنتها المبعثرة، إذ تحاول نفس الإدارة التي كانت ترفض التفاوض مع المقاومة، الجلوس على طاولة المفاوضات، في محاولة للبحث عن مخرج بعد أن أصبح جلياً بعد زهاء أكثر من 7 أشهر من شن حرب، لم تحرز غير الخسائر، فبرغم من الدعم غير المحدود عسكرياً وسياسياً، لم يحقق جيش الاحتلال أي هدف، وما زال يتخبط في الميدان ويستنزف قواه، بينما عزلة الاحتلال الدولية تتطور بسرعة في مسار مشابه قد أدى إلى انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سنة 1994.
يواجه التحالف الداعم لتل أبيب، المتمثل بشكل رئيسي في تنظيم الناتو العسكري الجناح العسكري للإمبراطورية الأمريكية، لحظات من الارتباك والتخبط في محاولته لإيجاد مخرج يحافظ على هيمنته ويتفادى الاعتراف بالهزيمة أو العجز. هذا الوضع يأتي في وقت تتزايد فيه التحديات على الساحة العالمية بشكل ملموس؛ حيث يشهد النظام العالمي الأحادي القطب تصدعات واضحة وتنامي الإرادة السياسية لدى بلدان في قارات كأفريقيا وأمريكا اللاتينية للتخلص من نفوذ مستعمريها القدامى والجدد.
في السياق ذاته، يخسر حلف الناتو جزءاً من نفوذه في الصراع القائم في أوكرانيا ضد روسيا، وهو الصراع الذي يقع في قلب شرق أوروبا. في الوقت نفسه، تستمر الصين في تعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية، وتتخذ خطوات محسوبة نحو تثبيت سيطرتها الإقليمية، بما في ذلك السيطرة على تايوان وتعميق هيمنتها على مياه بحر الصين الجنوبي.
ما يزيد الأمور تعقيداً للغرب هو الأزمات الاقتصادية المتفاقمة ومستويات المديونية العالية، والتي يبدو أنها تقترب من نقطة الانفجار، على الرغم من المحاولات المستمرة لترقيع هذه الأزمات وتأجيل العواقب المحتملة. هذه الديناميكيات تعقد من موقف الناتو وربما تدفعه نحو مواجهة أزمات عدة قد تؤثر بشكل جذري على مستقبل تأثيره ودوره في النظام الدولي الجديد. تاريخياً، شهدت الإمبراطوريات التي هيمنت على العالم لقرون انحساراً في نفوذها نتيجة لتراجع قوتها الاقتصادية، مما أثر سلباً على قدراتها العسكرية والسياسية. عجز هذه الإمبراطوريات عن تأمين الأموال اللازمة للحفاظ على قوتها العسكرية وتوفير نفقات انتشارها عبر البحار والقارات أدى إلى استحالة شن حروب بسبب كلفتها المادية الباهظة. من الإمبراطورية البريطانية إلى الفرنسية والعثمانية وحتى الرومانية، شهدت كل منها زوالاً تدريجياً نتيجة لهذه الديناميكيات الاقتصادية، الإمبراطورية الأمريكية لن تكون استثناء عن مسار التاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.