في مشهد بدا غير مألوف في الولايات المتحدة الأمريكية خرجت العديد من التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غزة، صاحبتها اعتصامات داخل الحرم الجامعي، حيث شهدت الجامعات الغربية حراكاً طلابياً وصف بأنه الأقوى منذ عقود، تصاعدت وتيرته في الفترة الأخيرة نظراً للإجراءات التعسفية التي قامت بها نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا، بعد استدعاء قوات الشرطة لفض الاعتصام واحتجاز العشرات من الطلبة، وهو ما أشعل الحراك الطلابي والتي امتد أثرها إلى العديد من الجامعات الأمريكية الأخرى، تجاوز عددها الأربعين جامعة على رأسها جامعات النخبة، تضامناً مع زملائهم في جامعة كولومبيا ومطالبين كذلك بوقف العدوان على غزة.
كما امتدت تلك التظاهرات لتشمل بلاداً أخرى خارج الولايات المتحدة على رأسها فرنسا كندا وألمانيا، وهو يجعلنا نقف بالرصد والتحليل لدراسة تلك التظاهرات وتأثيرها على القضية الفلسطينية في المجالين الثقافي والسياسي.
المحركات الأولية للحدث
لعله من غير المتوقع أن تُحدث عملية عسكرية توصف بالهجومية من قبل المقاومة الفلسطينية زخماً قوياً في الأوساط الغربية على وجه الخصوص، حيث صاحبت تلك العملية العديد من الاتهامات والدعاية المضادة للوبي الصهيوني ووسائل الإعلام الغربية والتى بدورها ضخمت من بعض مشاهد يوم السابع من أكتوبر ونسبت إليه العديد من الأكاذيب الرائجة، خاصة إذا تعلق الأمر بفصيل إسلامي، كتلك المتعلقة بقطع الرؤوس واغتصاب النساء هو ما فشلت تلك الدعاية لاحقاً في إثباته، بل كان من حسن الطالع أن تفقد وسائل الإعلام الغربية مركزيتها في احتكار الرواية الإعلامية ويفقد اللوبي الصهيوني من خلفه قدرته على التأثير المباشر، لتقوم وسائل التواصل الاجتماعي بالدور المحوري في نقل الحدث، وتصنع ولأول مرة في التاريخ رواية مضادة يساهم فيها الأفراد بشكل محوري وفاعل، فلم يعد من الممكن إقناع الجماهير بما تمليه عليهم وسائل الإعلام التقليدية، ولم تعد تهمة معاداة السامية مقنعة أمام سيل المشاهد والجرائم التى يقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني، ولم تعد اتهامات نتنياهو للمتظاهرين بمعاداة السامية لتجد آذاناً مصغية كما هو الحال في الماضي.
ساهم في ذلك أيضاً الخطاب الإسرائيلي المتعجرف والذي يفتقد الحد الأدنى من الدبلوماسية، في إظهار الوجه الإجرامي لإسرائيل، سواء بوصف المتظاهرين بالحيوانات البشرية أم التهديد المباشر باستخدام أسلحة نووية والتى شكلت صدمة للرأي العام العالمي تردد صداها في محكمة العدل الدولية ومحافل حقوق الإنسان، مطالباً بوقف الحرب على غزة ووقف تمويل الحرب لإسرائيل.
تحولات الرأي العام الأمريكي وصناعة رواية فلسطينية جديدة
لقد نجحت الدعاية الصهيونية عبر عقود في صناعة سردية تاريخية محكمة أُحيطت بالعديد من الأساطير الدينية والمظلومية التاريخية لليهود، والتى ساهمت بشكل كبير في تكريس وجود الاحتلال وجعل الصهيونية أشبه بصنم يصعب الاقتراب منه.
ظلت تلك السردية هي الأقرب للمخيلة الغربية إلى أن نشبت الحرب الحالية على غزة ودخل المجتمع في جدل غير مسبوق حتى بين اليهود أنفسهم، وهو ما عبرت عنه الصحفية الكندية نعومي كلاين أن الصهيونية هي "صنم كاذب أخذ فكرة الأرض الموعودة وحولها إلى صك بيع لدولة عسكرية عرقية، تنظر إلى الأطفال الفلسطينيين لا كبشر بل باعتبارهم تهديداً ديموغرافياً، تماماً كما كان فرعون في سفر الخروج يخشى تزايد عدد السكان الإسرائيليين، وبالتالي أمر بقتل أبنائهم!
ذلك الصنم الكاذب لا يقتصر على نتنياهو فحسب، بل العالم الذي صنعه، إنها الصهيونية.
وهو ما انعكس على وجهات النظر في المجتمع الأمريكي خاصة بين الشباب، وكسر أول المحرمات لدولة الاحتلال، وهو الربط المباشر بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية كأداة استعمارية مثلت حصناً منيعاً يمنع الاقتراب من جرائم الاحتلال تحت ذريعة معاداة السامية، تلك الأكذوبة التى تحولت إلى سياج أخلاقي حول جرائم الاحتلال لعقود طويلة.
فبحسب استطلاع جديد للرأي، أجراه مركز بيو للأبحاث، فإن عدد الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين لديهم وجهات نظر إيجابية تجاه الفلسطينيين، يفوق عددهم تجاه إسرائيل، خلال العدوان الحالي على قطاع غزة.
ووجد الاستطلاع أن 60% من الأمريكيين، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، عبروا عن آراء إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني، في حين كان لدى 46% آراء إيجابية تجاه إسرائيل.
يعد استطلاع الرأي هذا، أحدث بحث حول المواقف الأمريكية تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع على غزة، الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتأتي تلك النتائج، بعد أن أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب ونُشر في وقت سابق من هذا الشهر، أن 38% فقط من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً لديهم آراء إيجابية تجاه إسرائيل، وهو انخفاض بنسبة 26% عن العام السابق.
وهو ما يضع الرواية الصهيونية ولأول مرة على المحك، إذ تهاوت أركانها الدينية أمام جيل أكثر ليبرالية عن سابقه، وتهاوت أركانها الدعائية أمام إبادة جماعية لا تستطيع الدعاية الصهيونية طمسها.
الانتفاضات الطلابية والحرب في فيتنام
يستحضر الكاتب ديفيد هيرست أوجه الشبه بين هجوم تيت، وهو هجوم مفاجئ شنه الفيتكونغ والجيش الشعبي الفيتنامي الشمالي في فيتنام، في يناير 1968، والذي تم تصميمه لإثارة تمرد في جنوب فيتنام لم يشتعل أبداً، لكنه وبعد تلقي الصدمة الأولية، أعاد الجيش الفيتنامي الجنوبي والقوات الأمريكية تجميع صفوفهم وألحقوا خسائر فادحة بقوات الفيتكونغ.
مع ذلك كان هذا الهجوم نقطة تحول في دعم الولايات المتحدة للحرب، خاصة بعد انتفاضة الجامعات الأمريكية، حيث أصبحت جامعة كولومبيا واحدة من بؤر الاحتجاجات المناهضة للحرب، واحتل الطلاب 5 مبانٍ واحتجزوا عميدها، وانتشرت الحركة المناهضة للحرب كالنار في الهشيم في جميع أنحاء العالم.
وكما حدث في هجوم تيت، فإن عملية الهروب الجماعي من سجن غزة، والتي خططت لها كتائب القسام في 7 أكتوبر خرجت عن نطاق السيطرة في غضون ساعات. وكان السبب في ذلك جزئياً هو الانهيار السريع غير المتوقع للواء غزة التابع للجيش الإسرائيلي في جنوب إسرائيل.
ومرة أخرى، أصبحت جامعة كولومبيا في مركز الثورة، بعد سلسلة من المذابح ضد المدنيين في عملية إبادة جماعية استمرت سبعة أشهر ضد كل مواطن وعائلة في القطاع بغض النظر عن انتماءاتهم، وتدمير منازلهم ومستشفياتهم ومدارسهم وجامعاتهم، وهو ما نتج عنه تحول في الرأي العام العالمي.
وعلى الرغم من هذا التشابه لكن هناك اختلافات رئيسية أيضاً، فلقد كانت الاحتجاجات في الستينيات على خلفية الاحتجاجات الأوسع نطاقاً المناهضة للحرب والعنصرية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، داخل وخارج الجامعات، ما ساعد على تنشيط الحركة الطلابية، وشارك فيها آلاف الطلاب ومئات الجامعات.
يقول أنغوس جونستون، الأستاذ المساعد في جامعة مدينة نيويورك الذي يدرس الاحتجاجات الطلابية، إن حركة الاحتجاج الحالية تنمو بشكل واضح، لكنها ليست قريبة من هذا النطاق.
كما أن التكتيكات التي استخدمها المتظاهرون في الستينيات مختلفة إلى حد كبير، فقد تخللتها أعمال شغب، واحتلال للمباني، واشتباكات مع الشرطة، وإحراق مباني تدريب ضباط الاحتياط، على العكس من الاحتجاجات الحالية التى قوبلت من اللحظة الأولى بقمع أكبر ودون أي مظهر للعنف، وهو ما يشير إلى أن قمع الحريات أصبح أكثر علانية.
الانتفاضات الطلابية والاحتجاجات ضد نظام الفصل العنصري
هناك أيضاً الكثير من القواسم المشتركة بين احتجاجات اليوم والاحتجاجات المناهضة للفصل العنصري في الثمانينيات، خاصة فيما يتعلق بسحب الاستثمارات من الشركات التى تدعم أو استفادت من نظام الفصل العنصري.
لقد قام الطلاب في تلك الحقبة ببناء قوتهم في إدارة الجامعة وقاموا بتجميع مجموعات الضغط طوال السبعينيات. كما أصبحوا أكثر قوة سياسية عندما تم تخفيض سن التصويت من 21 إلى 18 سنة في عام 1972. وهذا يعني أنه بحلول الوقت الذي اكتسبت فيه الاحتجاجات ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا زخماً في الثمانينيات، كانت قد اكتسبت المزيد من النفوذ السياسي وأصبحت أفضل تنظيماً.
وقد رضخت حكومة الولايات المتحدة للضغوط التي مارسها المحتجون وسنت سياسة سحب الاستثمارات.
لكن المحتجين أيضاً لم يواجهوا الكثير من المقاومة في الثمانينيات، فقد شكل الضغط إحراجاً للنخب في الولايات المتحدة بسبب التواطؤ مع حكومة جنوب أفريقيا البيضاء، لقد كان نوعاً من الضغط على الباب المفتوح، فلم تكن هذه قضية استقطابية حقاً.
وهذا يختلف نوعاً ما عن الاحتجاجات اليوم، حيث كشفت الحرب في غزة عن انقسام كبير بين الأجيال، ولا يوجد نفس النوع من الإجماع بين الأمريكيين.
ولقد خلص باحثون في معهد بروكينغز إلى أن "البيانات تشير، اقتصادياً، إلى أن أي شيء أقل من العقوبات الرسمية من قبل شركاء اقتصاديين مهمين مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي من غير المرجح أن يؤدي إلى أي شيء قريب من نوع الضغط الاقتصادي الذي يتصوره مؤيدو حركة المقاطعة.
كما يواجه مديرو الجامعات الآن أيضاً ضغوطاً من الجهات المانحة والسياسيين الذين لم يكن لهم وجود خلال الثمانينيات. فالدعوة إلى سحب الاستثمارات من إسرائيل تحظى بمعارضة كبيرة لوجود الكثير من هياكل السلطة السياسية الداعمة لإسرائيل.
التأثيرات السياسية المحتملة
على الرغم من أوجه التقارب والاختلاف بين الحراك الطلابي الداعم لفيتنام وجنوب أفريقيا والحراك الحالي، إلا أن الحراك الحالي نجح في وضع مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية لوقف تلك الحرب والذي تظهر آثاره في الضغط الأمريكي على إسرائيل لمحاولة منع إحداث مجازر كبيرة في رفح، قد تنعكس آثارها السلبية على مسار الحراك الطلابي، كما يمكن لهذا الحراك أن يؤثر بشكل سلبي على مسار الانتخابات المقبلة وفرص الحزب الديمقراطي على وجه الخصوص، حيث يشكل الشباب والأقليات العرقية في المجتمع الأمريكي جزءاً مهماً من القاعدة الانتخابية للحزب.
أبرزت أيضاً الاحتجاجات الحالية قدرة فلسطينيي الشتات التنظيمية على الاستفادة من الأحداث الجارية، ونقل هذا التفاعل داخل الحرم الجامعي، وهو ما يستوجب دعماً سياسياً أكبر، لتكون لديه القدرة على النمو والاستمرار وجذب شرائح أكبر داخل المجتمع.
رفع نسب الرافضين لاستمرار الحرب على غزة داخل المجتمع الأمريكي، حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن ٥٥% من الأمريكيين يعارضون استمرار العدوان بانخفاض ملحوظ عن استطلاعات سابقة في العام الماضي.
وهو ما يشكل ضغطاً على الإدارة الامريكية الحالية، هذا بجانب ملفات أُخرى متعلقة بأمن الملاحة العالمية والتخوف من توسع الحرب إقليمياً.
ختاماً
إن من يعتقد بإمكانية تحقيق ضغط سياسي كبير من تلك التحركات الطلابية تماماً كمن يراها بلا طائل، كلاهما يتغافل عن مسارات التاريخ في التغيير، والذي يستوجب المزيد من الجهد والوقت، لكن الاحتلال يعي خطورة تلك التظاهرات بعد أن أصبح من الممكن انتقاد الممارسات العدوانية للاحتلال دون التخوف من إلصاق تهم كمعاداة السامية، فنحن أمام جيل تجاوز المحرقة والأساطير الدينية ولا تستطيع الماكينة الصهيونية التأثير المباشر عليه، كما يدرك الاحتلال خطورة الحراك على مستوى جامعات النخبة، والتى قد تخلق جيلاً من السياسيين ليس لديهم نفس الالتزام القديم تجاه إسرائيل أو ترى فيه عبئاً أخلاقياً وسياسياً، خاصة بعد أن تهاوت صورتها الأمنية والأخلاقية أمام العالم.
في النهاية إن تنامي أي حراك طلابي قد يشكل ضغطاً على السياسة الأمريكية، لكن القضايا المحورية لا تنتصر بتفاعل الآخر معها، بقدر ما تنتصر برسوخ أبنائها على الأرض، لتنهض أجيال متلاحقة تصبح أكثر تنظيماً وتكمل في نفس المسار بلا كلل أو تعب، وإن غداً لناظره قريب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.