منذ بداية الحرب في غزة يوم السابع من أكتوبر الماضي وحتى شهر ديسمبر، سُجل وصول 230 طائرة و20 سفينة شحن أمريكية تحمل مساعدات عسكرية إلى الاحتلال الإسرائيلي. بينما، في ألمانيا أعلنت الحكومة الألمانية عن دعمها غير المحدود للاحتلال مادياً ودبلومباسياً، فخارجياً لم يتوانَ المسؤولون الألمان عن تكرار تقديم التصريحات والمبررات البائسة الداعمة للاحتلال، وداخلياً استحضرت الأجهزة الأمنية الألمانية خبرتها القمعية؛ لكن هذه المرة من أجل قمع أي دعم يمت لفلسطين، فاقتحمت الشرطة مؤتمراً حول فلسطين، قطعت الكهرباء عنه، ومنعت وزيراً أوروبياً سابقاً والطبيب الفلسطيني البريطاني، غسان أبو ستة، من دخول البلاد، بالإضافة إلى حظر بث تسجيلات لهما ولآخرين، والتضييق على كل من يتعاطف مع الفلسطينيين حتى ولو كانوا فلسطينيين.
لكن ورغم هذا المشهد البائس، ولد مشهد معاكس له، إذ خرجت الجامعات الغربية الكبرى، سواء في أمريكا أو أوروبا، لتعبر عن دعمها لفلسطين ووقف حرب الإبادة على غزة خلال اعتصامات نظمها طلابها وأساتذتها والكادر الإداري في ساحات وفناءات تلك الجامعات والكليات، فصارت الأصوات واللافتات موحدة بلون واحد—لون فلسطين—وصوت واحد—صوت الحرية ومطالبة بوقف بطش الآلة الحربية الإسرائيلية.
ومع مرور الوقت، وبعد أن كان الطلاب هم الأكثريّة، وفي كثير من الأحيان لوحدهم في الميادين، بدأ سيلٌ من الأساتذة والعمداء يلتحق بركبهم اقتناعاً منهم بأهميّة وقيمة تلك الوقفات والهبّات التضامنيّة التي رفعت شعارات مناوئة للاحتلال ومناهضة للحكومات الغربيّة التي قدّمت الكثير من المدد والمساعدات العسكريّة والسياسيّة للمحتّل الغاصب.
إنّ مثل هذا الحراك الطلابي، وإن لم يغيّر في سياسات تلك الحكومات في الوقت الآني، إلا أنه يبقى وسيلة ضغط مهمة وورقة رابحة تبيّن للعالم بأسره الجحيم الذي يعيشه المدنيّون في فلسطين قاطبة وفي غزّة بشكل أخص، خاصة في ظلّ تزايد احتمالات وتهديدات من الاحتلال باقتحام وشن هجوم بري على مدينة رفح جنوبي القطاع، في الأيام القليلة القادمة.
بالإضافة إلى أنه يشير إلى تحول قادم في مسار القضية الفلسطينية وسردياتها في العالم، فمن يهتف من أجل فلسطين اليوم هم الشباب، وليس أي شباب؛ بل هم النخبة التي تُعتبر مؤثرة في تشكيل الرأي العام، خصوصاً أن هذه الاعتصامات والمظاهرات تُقام الآن في أرقى الجامعات الغربية، كجامعة كولومبيا وهارفارد والسوربون، فضلاً عن نظيراتها في هولندا وبلجيكا وغيرهما من الدول الغربية
قد أعلنت حكومتها عن دعم الاحتلال بشكل مطلق منذ بداية الحرب، وكأن غزة تزيل كل زيف العالم، بما فيها علاقة الدولة فتُظهِر التناقضات الفجة، حيث تُواجه الحكومات الأوروبية شبابها المُطالِب بوقف الإبادة بالقمع الشديد وبحشد قواتها الأمنية، بينما تواصل هي دعمها للحملات العسكرية ضد الفلسطينيين.
رغم ذلك، يستمر العديد من طلاب الجامعات حول العالم في الهتاف لفلسطين، بل يداومون على تنظيم مظاهرات تأييدية لحقوق الشعب الفلسطيني، ومطالبين بوقف الحرب والتوقف عن دعم الاحتلال في حرب الإبادة. وعلى الرغم من الضغوط السلطوية الرامية إلى منع هذه المظاهرات أو على الأقل تقييدها وعزلها عن وسائل الإعلام، تبدو محاولات الأجهزة الأمنية للحكومات بائسة ويائسة أمام الطوفان البشري لهذه المظاهرات وانتقالها من جامعة لأخرى ومن بلد لآخر.
ما يميز الحركات الطلابية أن ما يقودها هو الضمير قبل أي عامل آخر، فيمكن القول أيضاً إن الضمير الإنساني في أكثر مراحله نزاهة يكون في هذا العمر، ما نشهده اليوم من احتجاجات طلابية ضدّ الحرب الإسرائيلية على غزة في عديد من الجامعات الأمريكية يعيدنا إلى تلك المراحل من التاريخ، عندما استطاع الحراك الطلابي التأثير في المشهد السياسي والاجتماعي والحقوقي، وساهم في اتخاذ قرارات كبيرة من قبل الحكومات والأنظمة، فتاريخياً شهد العالم العديد من المظاهرات الطلابيّة لعلّ أبرزها مظاهرة مناهضة للاحتلال البريطاني في مصر عام 1919، والمسيرات المناهضة للشيوعية بالمجر عام 1956، وانتفاضة طلاب أوروبا ضد حرب فيتنام عام 1968، والانتفاضة ضد الحكم العسكري باليونان عام 1973، ومظاهرات سويتو جنوب أفريقيا عام 1976، والثورة المخملية بتشيكوسلوفاكيا عام 1989، و غيرها من المسيرات والوقفات السلميّة التي عبّر فيها طلاب العالم عن وقوفهم إلى جانب القضايا العادلة في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.