الخارق الذي حرمناه إنسانيته! الرجل الفلسطيني بين رمزية البطولة ومعاناة الواقع

عربي بوست
تم النشر: 2024/05/08 الساعة 10:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/08 الساعة 10:21 بتوقيت غرينتش

يلاحظ المتابع للوسائل الإعلامية التقليدية والرقمية على حد سواء نمطاً معيناً سائداً عند تناول الرجال الفلسطينيين والغزيين تحديداً في المحتوى الإخباري والإعلامي بشكل عام، أكثر ما يميز هذا المحتوى هو تمجيد رجال وشباب فلسطين وخاصة في الحرب الأخيرة وقولبتهم في صورة الأبطال الصامدين.

والذهاب لما هو أبعد من ذلك في التغطية الإعلامية وهو عدم الاهتمام بموتهم أو إصابتهم مع التركيز على الجرحى والشهداء من النساء والأطفال واعتبار جميع الرجال الفلسطينيين أبطال ووضعهم في هذا القالب الذي قد يكون حرمهم أهم وأبسط حقوقهم الإنسانية كأفراد، حقهم الطبيعي في الحياة والحفاظ على أرواحهم وضمان عدم تعرضهم للتعذيب والتنكيل والاعتقال والكثير من الممارسات الإجرامية التي يمارسها ضدهم جيش الاحتلال في غياب كامل للرأي العام العالمي والعربي الذي بات يغض البصر تماماً عن هذه المأساة الإنسانية التي يعانيها الفلسطينيين منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر. وهذا دون التطرق لمعاناة أكبر مستمرة منذ بداية هذا الاحتلال الغاشم. 

هل أفقدناهم نحن أبسط حقوقهم؟ 

إن قولبة الرجل الفلسطيني وتصويره في صورة البطل الخارق صورة لا نختلف معها ولا نعترض على أحقيتهم بهذا اللقب بعد كل ما عانوه لمجرد وجودهم في غزة أو أي جزء آخر من فلسطين المحتلة، نعلم أنه بشكل أو بآخر سيواجهون الكثير من التحديات والاضطهاد والعنصرية الإسرائيلية.

فطوال حياتهم يتعرض الفلسطينيون رجالاً ونساءً على حد سواء لهذه الممارسات والتجاوزات والاعتداءات الإسرائيلية، لكن ما لاحظناه في الاعتداء الأخير والحرب الدموية على قطاع غزة هو تجاهل كامل وقد يكن مقصود تجاه حقوق الشباب والرجل الفلسطيني وكم الاعتداءات التي تعرضوا لها على مدار أيام هذه الحرب والتركيز فقط على الإصابات والوفيات والحالات الإنسانية من النساء والأطفال أو كبار السن فقط. بينما يكون أول ما يتم تداوله عند وصف أو تداول خبر حول اعتداءات أو اعتقالات أو تعذيب للشباب والرجال الفلسطينيين هو استخدام مصطلحات مثل: أبطال، بطل، لا يهزم، صامدين، مع انتشار العديد من الصور والرسومات الإلكترونية المصغرة التي تشبههم بسوبر مان وباتمان والعديد من الشخصيات الأسطورية البطولية التي زرعتها ومجدتها إمبراطوريات صناعة الثقافة والفن الغربية مثل ديزني وغيرها في نفوسنا وأفلام الصغار والكبار على مدار سنوات طويلة من التغذية البصرية والعقلية والاستعمار الفكري والثقافي والاستهلاك العربي لثقافة غربية لا تشبهنا ومحاولة تقليدها وتبنيها والتماهي معها لأبعد الحدود حتى بتنا نشبه رجالاً يتعرضون لأسوأ أنواع الاعتقالات والتعذيب والتنكيل والإبادة الجماعية بأبطال ديزني وسوبر مان والكثير من الشخصيات الأسطورية الغربية الأخرى.

فلسطين: من "البطل الذي لا يقهر" إلى "الإنسان الذي يُعاني

قولبة الرجل الفلسطيني في قالب البطل ظاهرة خطيرة رغم أن البعض قد يجد فيها خطوة جيدة وبادرة جميلة تعطي لهؤلاء الرجال بعض حقهم في الثناء بعد كل ما يتعرضون له من العنصرية الإسرائيلية، وتمنح أطفالنا والأجيال القادمة صورة أخرى للبطل غير البطل الأسطوري المستورد الذي أجبروا على مشاهدته وحبه وتقليده لأنهم لم يروا غيره نماذج عربية يتم تناولها في أفلام الكرتون أو البرامج التلفزيونية أو الألعاب الالكترونية والقصص والكثير من المواد الإعلامية المختلفة التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال عبر القنوات الرقمية والتلفزيونية التقليدية.

 كما أنها قد تعتبر واحدة من طرق حفظ وتدوين التاريخ الفلسطيني وبناء السردية الفلسطينية على لسان أبطالها ومن واقع معاناتهم. لكنها ومن جهة أخرى تفقد هؤلاء الشباب والرجال العديد من صفاتهم الإنسانية الأساسية وتجعل العالم ينظر لهم بشكل مختلف، فكم سمعنا من مظاهرات وأصوات تنادي بوقف قتل النساء والأطفال في غزة، وكم من أقلام ومقابلات إعلامية دعت إلى وقف قتل النساء والأطفال في غزة ودعت إلى الاهتمام بحقوقهم الإنسانية.
في المقابل لم نسمع من يهتف أو ينادي أو يدعو عبر أي من المنصات التقليدية أو الرقمية أو حتى الفعاليات الشعبية بوقف قتل الشباب والرجال ووقف الاعتقالات والتنكيل والتعذيب الممنهج والإبادة الجماعية التي يتعرض لها هؤلاء الرجال والشباب. 

هل يرغب رجل يتعرض لمختلف أنواع التعذيب والعنصرية والقهر في أن يتم تمجيده؟ هل يهمّه أن يقال عنه بطل؟ أو عظيم أو فارس؟ هل يعنيه كم الصور ومقاطع الفيديو التي يتم تداولها له مع أغانٍ أو شعر أو نشيد يمجد الأبطال والتضحية؟ هل كل هذه الألقاب والمواد الإعلامية والفنية التي نصنعها لهؤلاء الرجال تصنع لهم أم لنا؟ لترضيهم أم ترضي ضعفنا وخوفنا وخجلنا وشعورنا المهين بالتقصير والعجز؟ أو شعورنا بالفخر بإنجاز لم نحققه ولم نكن طرف في معاناته؟ هل نريد أن نراهم أبطالاً حتى لا تلاحقنا صورة معاناتهم؟ هل نريدهم أبطالاً حتى لا تلاحقنا صورهم، ومقابرهم الجماعية وصرخات تعذيبهم وقصصهم؟ أم نريدهم أبطالاً حتى نصدق أنهم يمكنهم التحمل وأنهم لا يمانعون التعرض لكل هذ الظلم والقهر وأنهم اعتادوا هذه الحياة والمعاناة في سبيل قضيتهم؟

الرجل الفلسطيني في الإعلام: بين واجب التوعية ومخاطر التنميط 

يُمكن للإعلام أن يلعب دوراً هاماً في تشكيل الرأي العام حول مختلف القضايا، بما في ذلك الحروب ولكن، يمكن أن تؤدي بعض الممارسات الإعلامية إلى فقدان الضحايا من الرجال التعاطف والاهتمام بهم، وذلك من خلال تصنيفهم في قالب "الأبطال" في أخبار الحروب والصراعات وهناك عدة طرق يمكن من خلالها أن يفقد الإعلام الضحايا من الرجال التعاطف والاهتمام بهم:

التركيز على البطولة بدلاً من المعاناة حيث غالباً ما يُركز الإعلام على صور البطولة والشجاعة للرجال في سياق الحروب بينما يتم تجاهل أو تهميش مشاعر الخوف والألم والضعف التي قد يشعرون بها. هذا التركيز على البطولة قد يُؤدّي إلى تحويل الضحايا إلى رموز مجردة، بدلاً من أشخاص حقيقيين يعانون من صدمات نفسية وجسدية.

تهميش المشاعر الإنسانية قد يُؤدّي التركيز على البطولة إلى تهميش المشاعر الإنسانية للرجال الضحايا حيث يتم تصويرهم كأشخاص أقوياء لا يُمكنهم الشعور بالألم أو الحزن. هذا التهميش قد يُؤدّي إلى عدم التعاطف معهم، لأن الناس لا يُمكنهم التماهي معهم كبشر.

تعزيز الصور النمطية، قد يُؤدّي تصنيف الرجال في قالب "الأبطال" إلى تعزيز بعض الصور النمطية حول الرجولة مثل: يجب أن يكون الرجل قوياً ولا يُظهر مشاعره وغيرها الكثير من الصورة النمطية المنتشرة في مجتمعاتنا، هذه الصور النمطية قد تُؤدّي إلى عدم التعاطف مع الرجال الضحايا، لأنهم يُنظر إليهم كأشخاص يجب أن يكونوا أقوياء ولا يُمكنهم أن يُصبحوا ضحايا.

إقصاء أصوات الضحايا: غالباً ما يتم تجاهل أو تهميش أصوات الضحايا من الرجال في الإعلام بينما يتم التركيز على أصوات "الخبراء" أو "المحللين". أو الضحايا من النساء وكبار السن. هذا الإقصاء قد يُؤدّي إلى عدم سماع قصص الضحايا، وبالتالي عدم التعاطف معهم أو المطالبة بحقوقهم.

ماذا يمكننا أن نفعل؟

يجب على الإعلام أن يُقدم صورة أكثر واقعية للرجال الضحايا في الحروب وخاصة الرجال في فلسطين عموما وغزة خاصة التي تعاني ويلات حرب إبادة شعب كامل

يجب أن يُركز الإعلام والمحتوى الإعلامي على مشاعرهم الإنسانية وآلامهم، بدلاً من التركيز فقط على بطولاتهم.

يجب أن يُتيح الإعلام للضحايا فرصة التعبير عن أنفسهم ومشاركة قصصهم مع احترام مساحتهم الشخصية وخصوصيتهم.

يجب على الجمهور أن يكون على دراية بمخاطر الصور النمطية حول الرجولة، وأن يُطالب بتقديم صورة أكثر إنسانية للرجال في الإعلام وتقبل فكرة أن الرجال ضحايا في هذه الحرب ويعانون ما تعانيه النساء والأطفال وقد يعانون أكثر بسبب حملات الاعتقالات والتعذيب الجماعي الذي يتعرضون له.

من خلال هذه الخطوات، يمكننا أن نُساعد في ضمان حصول الضحايا من الرجال على التعاطف والاهتمام والمساعدة التي يستحقونها.

كل منبر إعلامي وكل صانع محتوى إعلامي رقمي أو تقليدي يتحمل جزءاً من المسؤولية تجاه رجال غزة، مسؤولية عدم المتاجرة بمعاناتهم، ومسؤولية عدم قولبتهم في قالب نمطي يفقدهم أبسط حقوقهم الإنسانية وسط كل ما يعانوه، يحق لنا أن نفخر ببطولات رجال غزة وفلسطين ولكن الأولى والأجدر في هذه المرحلة أن نسلط الضوء على معاناتهم وعلى المجازر والمذابح الجماعية التي يرتكبها بحقهم جيش الاحتلال الإسرائيلي.

الأهم من تمجيد الأبطال بعد موتهم هو حمايتهم وقت حياتهم، وعدم تجريدهم من إنسانيتهم ومشاعرهم وحقوقهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

منى المصري
كاتبة وباحثة أردنية
كاتبة وباحثة أردنية
تحميل المزيد